الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

هل كان عبد الناصر ديكتاتورا 2 ؟؟؟؟؟ لعصمت سيف الدولة

من كتاب هل كان عبد الناصر ديكتاتورا 2 - عصمت سيف الدولة

 هل كان عبد اتلناصر دكتاتورا - عصمت سيف الدولة
بين الثورة والإصلاح :

ابتداء من الاحتلال، وبعد استبعاد الخونة والعملاء وصنائع المحتلين، انقسمت الحركة الوطنية فى مصر الى اتجاهين . سار كل منهما على خط متميز. ولم يكن يفرق بينهما الرغبة في الاستقلال ، بل أسلوب تحقيق الاستقلال . أحدهما الخط الثورى الذي يرفض الاحتلال وينكر شرعيته ولا يتعامل معه ، ولا يتولى الحكم في ظله ، ولا يفاوضه ، ويلتمس إلى مقاومته كل سبيل ، علني أو سري ، محلي أو دولي، سلمي أو عنيف.. والخط الثاني يقبل الاحتلال كأمر واقع ، ويتعامل معه ويلتمس إلى إنهائه التدرج الإصلاحي في التعليم والتربية والتقدم الإقتصادي ، ثم التفاوض مع المحتلين أنفسهم بقصد إقناعهم أن شعب مصر قد بلغ من التمدين- على الطريقة الأوروبية- ما يجعله مستحقاً للاستقلال مؤهلاً لحماية نفسه.
الخط الأول : كان مشغولاً ، بالدرجة الأولى، بالتعبئة الشعبية لمقاومة المحتلين .
الخط الثاني : كان مشغولاً ، بالدرجة الأولى ، بالتربية الشعبية في ظل الاحتلال .
ولقد تجسد كل من الخطين ، بعد الاحتلال ، في قوى منظمة (أحزاب) .
أما عن الخط الأول، الثوري، فقد عرفنا أنه بدأ قبل الاحتلال في شكل منظمة سرية تحت إسم " الحزب الوطني " فلما ان انهزمت الثورة اختفى الحزب الوطني كمنظمة . وبعد الاحتلال بعشر سنوات ، وعلى وجه التحديد، في عام 1893 دعا لطيف سليم ، أحد ضباط الثورة العرابية بعضاً من رفاقه القدامى وبعضاً من شباب الجيل الجديد، حينئذ، إلى منزله في حلوان ، حيث تشكل الحزب الوطني لأول مرة عام 1879 وأعيد تشكيل المنظمة السرية وباسم " الحزب الوطني " أيضاً . وكان ألمع المؤسسين هو الزعيم الوطني مصطفى كامل فاختير زعيماً للحزب وكان سنه 20 عاماً وكان شعار الحزب " لا مفاوضة إلا بعد الجلاء " .
ولقد استطاع الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل أن يوقظ الشعب ويعبئه ضد الاحتلال وأن يصدر ثلاث صحف يومية ، بالعربية ( اللواء عام 1900 وبالإنجليزية ( ذي اجيبشيان ستاندرد عام 1907) وبالفرنسية ( ليندرا اجيبشيان عام 1907) ، قبل أن يصبح حزباً علنياً ذلك لأنه لم يؤسس علنياً إلا عام 1907، وكان ذلك لمواجهة الخط الوطني الإصلاحي .

كانت في مصر شركة تجارية مساهمة تصدر صحيفة بإسم الجريدة تأسست في أغسطس 1906 من " الأثرياء وذوي المراكز العليا في البلاد " كما قال مؤسسوها . وفي 20 سبتمبر 1907 قررت الجمعية العمومية للشركة تحويل الشركة إلى حزب بإسم " حزب الأمة " . جاء في برنامجه :
(1) تأييداً لسلطة الخديوية فيما تضمنتها الفرامانات من استقلال مصر الإداري .
(2) الاعتماد على الوعود والتصريحات التي أعلنتها بريطانيا العظمى عند احتلال القطر المصري ومطالبتها بتحقيقها والوفاء بها .
(3) المطالبة بمجلس نيابي مصري يكون تام السلطة فيما يتعلق بالمصريين والمصالح المصرية.
من هذا البرنامج يتضح ما عرف في تاريخ الحركة الوطنية في مصر " بخط حزب الأمة " أو " مدرسة حزب الأمة ".. تقديم مطلب الدستور والحكم النيابي ( الديموقراطية) على مطلب الإستقلال . حينئذ تخوف الزعيم مصطفى كامل من أن يؤدي إستمرار غياب الكيان التنظيمي العلني " للحزب الوطني " إلى أن ينجح حزب الأمة والأحزاب الجديدة ذات الكيانات التنظيمية ( كان الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد قد أعلن نيته في تأليف حزب الإصلاح الذي ينتمي إلى مدرسة حزب الأمة أيضاً ).. في استقطاب أنصار الحزب الوطني فأجتمع 1019 واعتذر 846 ، وانعقدت الجمعية التأسيسية يوم 27 ديسمبر 1907 وأعلن برنامجه :
(1) إستقلال مصر مع سودانها وملحقاتها استقلالاً تاماً غير مشوب بأية حماية أو وصاية أو سيادة أجنبية أو أي قيد يقيد هذا الاستقلال .
(2) إيجاد حكومة دستورية في البلاد حيث تكون السيادة للأمة وتكون الهيئة الحاكمة مسئولة أمام مجلس نيابى تام السلطة... الخ .
وهكذا تميز الخطان ، الثوري والإصلاحي، في تنظيمين لم يلبثا أن أصبحا مدرستين أو تيارين قاد الأول مصطفى كامل ثم من بعده محمد فريد ثم من بعده انتمى الى مدرسته من المعاصرين لثورة 23 يوليو 1952 ، الحزب الوطني ، الحزب الوطني الجديد ، الحزب الاشتراكي ، وإلى حد كبير جماعة الاخوان المسلمين التي كانت تشارك في الاحتفال بذكرى مؤسسي المدرسة الوطنية وتتخذ منهم نماذج تقتدى في تربيتها السياسية لكوادرها .
والخط الثاني انتمت إليه أعداد كثيفة من الأحزاب، حزب الإصلاح على المباديء الدستورية (عام 1907)، حزب النبلاء (1908) الحزب المصري (1908) حزب الأحرار ( 1907 ) الحزب الدستوري ( 1910 ) حزب الوفد (23 نوفبر 1918) ، حزب الأحرار الدستوريين (1922) الهيئة السعدية (1938) الكتلة الوفدية (1942) .
وبالرغم من تعدد الأحزاب والفصائل المنتمية إلى كل خط من خطوط الحركة الوطنية، ظل الفارق بينهما واضحاً، حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952، حول أسلوب التحرر من الاستعمار وما يتبعه من تقرير الأولوية بين هدف الاستقلال .. و هدف الديموقراطية..
ولقد ضرب المحتلون " الخط الوطني " ضربة قاسية على إثر قيام الحرب الأوروبية الأولى 1914، وفرض الحماية على مصر، فنفيت بعض قياداته وهرب بعضهم إلى أوروبا وسجن الباقون إلى أن انتهت الحرب.. وكان زعم الحزب الوطني هارباً من حكم صادر ضده بالحبس .. ومقيماً في أوروبا فأوصى رجال الحزب الباقين في مصر بالانضمام إلى الوفد فانضموا وكان من بينهم " مصطفى النحاس " الذي سيصبح فيما بعد رئيسآ للوفد وخليفة لسعد، ويثبت في مواقف عدة انه خريج مدرسة الحزب الوطني ... ولما أصبح زعماء حزب الأمة حكاماً ، وتوفي زعيم المدرسة الوطنية محمد فريد في ألمانيا شريداً فقيراً ، لم يهتموا حتى بإحضار جثمانه فأحضره أحد تجار طنطا على حسابه ..
وفي 23 يوليو 1952 قامت الثورة بقيادة عبد الناصر. والسؤال الآن هو : إلى أي الخطين كان ينتمي جمال عبد الناصر قائد الثورة ..؟؟
إن أغلب الذين أرخوا لثورة 23 يوليو 1952 وقاثدها ، خدعوا في الترتيب الزمني فاعتبروا أن ثورة 23 يوليو 1952، إذ جاءت بعد قيادة حزب الوفد للحركة الوطنية ، تكون خليفة في خطه لتكمل مسيرته.. وهو خطأ فظيع حال دون هؤلاء المؤرخين وبين تفسير أو فهم موقف الثورة بعد نجاحها من الوفد ومدرسته حول قضية " الديموقراطية "..

نحن نقطع بيقين . أن ثورة 23 يوليو 1952، تنتمي إلى الخط الوطني الثوري وان عبد الناصر كان القائد الرابع لهذا الخط بعد عرابي - مصطفى كامل - محمد فريد . ولنا على هذا خمسة أدلة قاطعة :

أولاً : ان التنظيم الثوري السري ، الذي كان موجوداً ونشيطاً منذ 1907 كامتداد- تحت الأرض- للحزب الوطني العلني هو الذي بدأ تشكيل الضباط الأحرار . ان هذه قصة طويلة وممتدة من تاريخ الحركة الوطنية في مصر وتاريخ ثورة 23 يوليو .. قد نكتبها في يوم من الأيام .. بعد أن يستنفد كل الراغبين في نسبة حركة الضباط الأحرار إليهم أشواقهم إلى القفز في مركبة التاريخ . يكفي الآن أن أقول ان مؤسس تنظيم الضباط الأحرار هو " عبد العزيز علي " (أطال الله بقاءه) الذي كان يقود التنظيم الثوري السري في الحركة الوطنية . وان أول ضابط حمل هذا الإسم وأقسم اليمين أمام عبد العزيز على هو " وجيه أباظة " من سلاح الطيران .. وانه بانضمام جمال عبد الناصر إلى التنظيم أدرك عبد العزيز علي ، الذي كان عبد الناصر يعتبره بمثابة والده الروحي ، ان تنظيم الضباط الأحرار قد وجد قيادته القادرة . فاكتفى بأن يكون أبا روحياً ومستشاراً للضباط الأحرار ولعبد الناصر..
ان الذين لا يعرفون أسرار الحركة الوطنية، ولا أسرار الضباط الأحرار، قد أصابتهم دهشة بالغة حين رأوا عبد الناصريختار موظفاً صغيراً في القسم المالي بمحافظة القاهرة ليكون وزيراً في أول وزارة للثورة . رجل لعب أخطر الأدوار في النضال الثوري في مصر ابتداء من 1910، أراد أحد تلاميذه أن يكرمه فأظهره من " تحت الأرض " وأولاه الوزارة . كان ذلك هو وزير الشئون البلدية في وزارة عبد الناصر الأولى : عبد العزيزعلي .
ثانياً : بعد أن ألغى رئيس الوفد مصطفى النحاس ( خريج مدرسة الحزب الوطني) معاهدة 1936 يوم الإثنين 8 أكتوبر 1951 وبدأ الكفاح الشعبي المسلح ضد الاحتلال في منطقة ومحافظة الشرقية، تألفت، وتحت مظلة المد الشعبي الذي اندفعت إلى المشاركة فيه كل القوى الحزبية، قوة مقاتلة مشتركة من كوادر الحزب الوطني والضباط الأحرار.. قدم الحزب المتطوعين وتولى الضباط الأحرار التدريب في داخل معسكرات الجيش نفسه. وتحمل الحزب ( شباب الحزب من وراء ظهر شيوخه) مسئولية القيادة السياسية وتولى الضباط الأحرار مسئولية القيادة العسكرية. وكان القائد العسكري هو- مرة أخرى- وجيه أباظة.. أما القائد السياسي فلا مبرر لذكر اسمه .. وكان حلقة الاتصال هو الضابط عبد المجيد فريد الذي أصبح فيما بعد سكرتيراً لرئاسة الجمهورية طوال عهد عبد الناصر .. وقد انتهت الحركة بحريق القاهرة يوم السبت 26 يناير 1952.. وكانت كتيبة " مصطفى كامل " آخر من غادر قطاع نشاطها ( في محافظة الشرقية) يوم 30 يناير 1952…
ثالثاً : لهذا لم يكن غريباً أبداً ، وإن كان قد استغربه وما زال يستغربه الكثيرون من أصحاب " المذكرات الشخصية " أن أول وزارة ألفتها الثورة بعد انتصارها عام 1952 كانت مناصفة تقريباً بين الضباط الأحرار والحزب الوطني . خمسه من الضباط الأحرار على رأسهم جمال عبد الناصر وخمسة من رجال الحزب الوطني على رأسهم سليمان حافظ .. ليس غريباً لأن وراءه تجربة مشتركة وانتماء موحداً إلى مدرسة وطنية أو خط وطني واحد ..
رابعاً : وهو- في رأينا- دليل على أكبر قدر من الأهمية : الاتجاه الشعبي . لقد كانت مدرسة الحزب الوطني ترفض الاحتلال، ولا تقبل المشاركة في الحكم في ظله وترفض التفاوض معه، كما عرفنا، فلم يكن لها مصدر قوة من السلطة أو التشريع . فاتجهت من البداية إلى الشعب تطرح عليه أفكارها وتستمد منه قوتها.. ولقد استطاع مصطفى كامل في حياته أن يستقطب إلى الخط الوطني الأغلبية الساحقة من الشعب . ثم من بعده جاء محمد فريد (1908) فاتجه بعد التعبئة إلى التنظيم . الجامعة المصرية مشروع من مشروعاته ، نادي المدرسة العليا (مقارب لاتحاد الطلاب) مشروع من مشروعاته.
المدارس الليلية فتحها الحزب في كل الأحياء الشعبية وكان قادته يلقون فيها بجوار دروس محو الأمية.. الدروس السياسية.. " التعاونيات الزراعية " انشأها الحزب للفلاحين .. ثم نقابات العمال ..
يقول أستاذ الاقتصاد الإنجليزي فريزر عن تاريخ الحركة النقابية في العالم أنه منذ أن وجدت أول نقابة عمالية في التاريخ ( في نيوزيلاندة) كان تطور الحركة النقابية يبدأ من النقابة، ثم باللجان الانتخابية لمساعدة بعض العمال على الوصول الى البرلمان ، ثم ينتهي إلى حزب سياسي تابع للحركة النقابية ومعبر عنها في الوقت ذاته .. الا- هكذا يقول فريزر- استثناء واحد حدث في مصر سبق الحزب فيه النقابة، إذ أن الحزب الوطني الذي أنشأ نقابات العمال ضمن اهتمامه بالحركة الشعبية وتنظيمها...
هذا الاهتمام ، أو لنقل الانتباه ، الى القواعد الشعبية من عمال و فلاحين وطلبة وغيرهم .. الذي كان مميزاً تقليدياً لمدرسة الحزب الوطني ، كبديل عن ممارسة السلطة التي انتبهت إليها مدرسة حزب الأمة، سنجده - بعد غيبة بدأت عام 1914- يبرز مرة أخرى في موقف ثورة 23 يوليو وانتباه عبد الناصر، فنعرف منه، ربما أكثر من أي شيء آخر، إلى أي خط وطني تنتمي ثورة 1952 وقائدها .
خامساً وأخيراً : فإن عبد الناصر نفسه يفصح عن انتمائه حين يقيّم الأحزاب خلال الحوار الذي دار يوم 19 مارس عام 1963 بمناسبة مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسوريا فيقول : " كل الأحزاب عندنا كانت أحزاب رجعية وتعاونت مع الاستعمار ما عدا الحزب الوطني .. ثانياً : الحزب الوطني كانت قواعده قليلة .. أما بقية الأحزاب كلها فإما أحزاب إقطاعية أو أحزاب رجعية ".


عودة إلى المشكلة :

هذا التعليق الأخير الذي قاله عبد الناصر يعود بنا إلى مشكلة الديموقراطية بعد أن يلقي عليها ضوءاً قوياً . في عام 1952 كان الخط الثوري الوطني قد أصبحت " قواعده قليلة " بعد ضرب " تنظيمه العلني عام 1914، وبقيادة سعد زغلول ( أحد أركان مدرسة حزب الأمة) ثورة الشعب عام 1919 التي أنهاها هو " نفسه بعد صدور الدستور ليتولى الحكم ، ومن مدرسة حزب الأمة خرجت أحزاب كثيرة كلها " رجعية وتعاونت مع الاستعمار " . وضد هذه المدرسة السائدة قام فصيل من فصائل المدرسة الوطنية الثورية ، تشكل تحت اسم الضباط الأحرار فقاد ثورة 1952، واستولى على السلطة، ليعيد الأولويات طبقاً لمنطق مدرسته : التحرر والديموقراطية أو الديموقراطية في إطار متطلبات التحرر. ثم يعود إلى تقاليد مدرسته التي أرساها محمد فريد فينتبه إلى أن مشكلة الديموقراطية، وحل مشكلة الديموقراطية، كليهما كامنان في القاعدة الشعبية..
وسنعرف على ضوء هذا كيف نفسر، ونبرر، ونفهم، وننقد أيضاً ، كثيراً من المواقف التي اتخذتها ثورة 23 يوليو 1952، وعبد الناصر شخصياً ، من مشكلة الديموقراطية في مصر. تلك المواقف التي ما كنا لنفهمها لولا معرفتنا " الخلفية السياسية " أو " الخط السياسي " الذي تنتمي إليه الثورة وقائدها، والذي ما يزال مجهولاً ، من هواة " الكتابة " على جدار المعبد ... أو هواة التقدم إلى الخلف ...

الأمبراطورية الأخرى :

ولكنا نعرف من الآن أن مشكلة الديموقراطية كانت ثائرة وحاضرة في ساحة الصراع السياسي في مصر. واننا إذا كنا قد قلنا ان الشعب بعد عام 1926 خاصة، قد تراجع عن النشاط الديموقراطي إلى أن أصبح راكداً ، فلأن الديموقراطية ومشكلاتها وحلولها قد أصبحت في مصر من صلاحيات الحلف الإقطاعي الرأسمالي ومثقفيه وصحافته وأبعد الشعب عمداً ، عن ممارسة حقوقه السياسية، وجرد، عمداً ، من إمكانيات المقاومة ولعب القهر الاقتصادي الدور الأساسي في الأبعاد والتجريد ...
في هذه الحدود لا أحد ينكر المواقف البطولية لحزب الوفد ضد الملك حفاظاً على الدستور ولا المعارك التي خاضها المثقفون من الطلبة ضد أحزاب الأقلية ، وكلها مواقف ومعارك من أجل الديموقراطية. ولكن، كما سألنا من قبل أية ديموقراطية؟.. انها ديموقراطية السادة في القمة.. وفي غيبة الشعب.
ومع ذلك، كما يحدث دائماً ، لم تخل معارك السادة من التفاتة إلى الشعب ، ولا ينكر أحد ما كان يفيده الشعب، فعلاً، من فترات حكم الوفد . كما لا ينكر أحد أن تلك الأحزاب - وخاصة الوفد- كان قد بدأ- قبل عام 1952 - يفرز جيلأ جديداً يحاول أن يشرك الشعب في قضية الديموقراطية باعتباره صاحبها الأصيل...
ومن المؤشرات المبكرة لهذا الذي لا ننكره ، أن يوسف الجندي ، الذي عرفناه أمبراطوراً لمدينة " زفتي " الثائرة يقود قوات الفلاحين ، قد أصبح نائباً عن مدينته في أول برلمان عام 1924، وعضواً في حزب الوفد الذي يرأسه سعد زغلول زعيم الحزب ورئيس الحكومة . وقد استهل سعد زغلول وحزبه عهده بمحاولة تعديل قانون الانتخاب على وجه ينتقص من حق الفلاحين الأميين فانبرى يوسف الجندي يعارض زعيمه وحزبه وكان من بين ما قاله : " ان الحكومة تكلف الشخص - سواء كان أمياً أو غير أمي - اداء الخدمة العسكرية فيتقلد سلاحه ويدافع عن بلاده مهاجماً ومدافعاً . فالحكومة تعرض أبناءها قبل بلوغ العشرين سنة لرصاص الأعداء والآن يراد ألا يكون لهم رأي في شئون بلادهم قبل سن الرابعة والعشرين ... الخ (23 يوليو 1924).
ثائر ديموقراطي .. نعم ، في حزب لاثوري ولا ديموقراطي .. نعم أيضاً .
كانت في مصر إذن حركة وطنية ديموقراطية قبل 1952 ولكنها تدور في إطار مدرسة إصلاحية وتقودها أحزاب الإقطاع والرأسماليين . وضد هذا الإطار وتلك المدرسة بالذات وضد قياداتها قامت ثورة 1952 تحت قيادة عبد الناصر.
فلم تنبثق الثورة من فراغ ، ولم يكن قائدها معجزة، بل كانت وكان الرد الطبيعي على ما كان سائداً قبلها.. وكان انتصار جمال عبد الناصر عام 1952 هو انتصار عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد وخطهم الثوري بعد سبعين عاماً من الكفاح الوطني .
حتى لاننسى:
ثورة 23 يوليو 1952، وعبد الناصر ينتميان إلى الخط الوطني الثوري ، الذي يتميز أساساً عن الخط الوطني الإصلاحي، بأنه يعطي مشكلة التحرر أولوية على مشكلة الديموقراطية وحين يتصدى لحل مشكلة الديموقراطية يعطي الأولوية لجانبها الشعبي.
لو نسينا هذه المقولة البسيطة لن نفهم شيئاً من الحديث عن " عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر "... ذلك لأن مشكلة التحرر الوطني- بالذات- كانت ذات أثر بالغ على فهم عبد الناصر ومواقفه من مشكلة الديموقراطية في مصر، كما أن أولوية الجانب الشعبي كانت ذات أثر بالغ على فهم عبد الناصر ومواقفه من حل مشكلة الديموقراطية في مصر...
فأرجو ألا ننسى .

(4) القيود.. و الحدود

من البداية الى النهاية:

خطونا، حتى الان ، ثلاث خطوات على الطريق للالتقاء بالرئيس جمال عبد الناصر في مواجهة مشكلة الديموقراطية في مصر. كانت الخطوة الاولى تعريفا بالزاوية التي ننظر منها الى هذه المواجهة، وكانت الخطوة الثانية تعريفا بمشكلة الديموقراطية في مصر قبل ان تواجه عبد الناصر، وكانت الخطوة الثالثة تعريفاً بعبد الناصر قبل ان يواجه مشكلة الديموقراطية في مصر... وكانت كلها خطوات محدودة بموضوع الحديث وحدوده .
فكان المفروض او المتوقع ان تكون الخطوة الحالية خطوة نبتعد بها عن الموضوع لنترك عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية يحكيان لنا قصتهما بدون التدخل منا . ولنتابع جولات الصراع المرير بين قائد ثورة ومشكلة شعب الذي استمر ثمانية عشر عاماً .
ولكنا قد تبينا ان ذلك قد بدأ واستمر وانتهى تثقل حركته مجموعة من القيود، وتتحكم في مداه مجموعة من الحدود . وهي قيود ورثها عبد الناصر ولكنه لم يستطع أبدا ان يحرر الحركة الديموقراطية في مصر منها، وما تزال حتى هذه اللحظة تثقل حركة التطور الديموقراطي ، فهي عنصر ثابت في عهد عبد الناصر- من عناصر مشكلة الديموقراطية في مصر . اما عن الحدود فهي معطيات موضوعية نشأت مع ثورة 23 يوليو وتحكمت ، طوال حياة عبد الناصر، في نظام الممارسة الديموقراطية وأسلوبها. او انها - على وجه- قد حددت مضمون مشكلة الديموقراطية في مصر- وبالتالي- حددت نوعية حلها، فهي أيضا عنصر ثابت من عناصر مشكلة الديموقراطية في مصر في عهد عبد الناصر.
فرأينا، بدلا ان نشير اليها في كل خطوة نخطوها، او نعود اليها في كل خطوة لبيان ثقلها وما تفرضه على الحركة الديموقراطية من حدود لا تستطيع ان تتجاوزها ، ان نخصص لها هذا الجزء من الحديث، حى اذا ما بدأنا- فيما بعد- نراقب من بعد قريب جولات الصراع المثير بين قائد الثورة ومشكلة الشعب نكون واعين بان الصراع لم يكن " مصارعة حرة " بل كان يدور مثقلا بقيود لم يستطع أن يتحرر منها، في مجال محدود، لم يستطع ان يتجاوزه . وسنعرف من تطور الصراع ذاته من المسئول عن القيود والحدود...
نبدأ بالقيود

نحن خديوي مصر:

قلنا من قبل ان دستور 1923 كانت فيه بعض الاحكاء الاستبدادية ولكنه لم يكن يحول دون الشعب وممارسته الديوقراطية، بل لم يكن يحول دون الغاء الاحكام الدستورية التي كانت تحمي امتيازات الملكية. وانه اذا كنا قد قلنا انه دستور ليبرالي فلا يمكن لاحد ان يتهم الليبرالية بالتقصير في سرد الحريات " الطبيعية " ورصها في الدساتير لان الليبرالية ضد التدخل في حياة الافراد من حيث المبدأ.
قصرنا حديثنا على الدستور ولم نتناول القوانين واللوائح والقرارات الاستبدادية لاننا كنا نريد ان نركز على الاساس في النظام . لنتبين بأكبر قدر من الوضوح انه، بصرف النظر عن الحكام ونواياهم وقوانينهم، أي حتى لو صدق الدستور الليبرالي فيما وعد من حريات سياسية فان القهر الاقتصادي سيسلب هذه الحريات اذ يحرم أصحابها من المقدرة الفعلية على ممارستها.
لم يكن كل ذلك يعني ان الليبراليين لا يتدخلون عن طريق القوانين لشل حركة الشعب حين يستشعرون ان الشعب او قطاعا منه قد تحرك، او ممكن ان يتحرك، للمساس بسيادتهم، ابدا. ان الليبراليين لا يترددون لحظة واحدة في تقنين سيطرتهم الاقتصادية ولو اقتضى الامر مخالفة مبادئهم الليبرالية. وقد يصل بهم الامر الى الديكتاتورية كما هو الحال في الفاشية. فليست الفاشية الا ذلك النظام الاستبدادي الذي يقيمه الرأسماليون لحماية سيطرتهم الاقتصادية بقوة الدولة البوليسية حين يستشعررن ان ذلك هو البديل الوحيد عن ثورة شعبية متوقعة.
على أي حال فان سادة مصر قبل عام 1952 لم يتركوا فرصة للمخاطرة بمصالحهم، واتخذوا من سيطرتهم على الحكم وسيلة للتحوط ضد مخاطر أية حركة شعبية. نختار أمثلة لها بضعة قوانين " ارهابية وبربرية ".. ارهابية لأنها موجهة ضد الشعوب وبربرية لأنها مخالفة لمبادئ التشريع المعترف بها في العالم . ثم اننا قد اخترناها لأنها ، منذ أن بدأ اصدارها " خديوي مصر " ما تزال سارية حتى الان .

الجريمة.. الملحوظة :

في كل بلاد العالم المتمدين لا يعاقب القانون على النوايا اطلاقاً . ولا يعاقب على الاعمال التحضيرية لارتكاب الجرائم إذا وقف الامر عند الاعمال التحضيرية أي اذا عدل صاحب المشروع الاجرامي عن اكماله. هل سمع أحد عن رجل حوكم لأن امرأته دخلت عليه فوجدته يشحذ سكينا ، قالت مابالك ، قال اني أحضرها لذبح فلان لذات السبب الذي تعرفينه فقالت له : يا رجل دعه لله فانه المنتقم الجبار، فقال: صدقت والله.. وألقى سكينه؟.. تلك أعمال تحضيرية لجريمة قتل عمد لا عقاب عليها لأن صاحبها قد عدل عن مشروعه .
ان القانون في كل بلاد العالم المتمدين لا يعاقب على الاتفاق والمساعدة او التحريض على أية جريمة الا اذا ادى هدا الاتفاق أو المساعدة او التحريض الى وقوع الجريمة فعلا . وهل سمع احد عن محاكمة وسجن أسرة لأن امرأة قالت لزوجها لا بد ان تقتل فلانا للسبب الذي تعرفه . فجمع أولاده واتفقوا على ان يقتلوه ولما افتقدوا السلاح قال خالهم اليكم سلاحي وأنجزوا ما وعدتم به امكم فبعثوا بواحد منهم يترصد الذي أرادوا قتله فقيل لهم انه غادر البلاد... او مات؟... ذلك تحريض واتفاق ومساعدة على جريمة قتل عمد لا عقاب عليه لأن الجريمة لم تتم .
هذا في كل بلاد العالم المتمدين . اذ ما دام الافراد لم يبدأوا فعلا تنفيذ الفعل الممنوع فان فرض عقوبة لا يكون مقصودا به حماية المجتمع ولكن محاسبتهم على نواياهم وأقوالهم أي - باختصار- ارهابهم . ولم تزل الشريعة الاسلامية أكثر مدنية من كل الشرائع فلا عقاب فيها الا على ما وقع من فعل وتركت لما قبل ذلك باب الرجوع عن الخطأ مفتوحا تشجيعاً على التوبة . حتى الكفر لا عقاب عليه ما دام كامنا في ضمير صاحبه .. الى ان يلتقي بالمطلع على السرائر. ولقد كان قانون العقوبات في مصر يحترم هذه المبادئ حى عام 1910.
كان رئيس مجلس النظار (رئيس الوزراء) في ذلك الوقت واحدا من الذين يحفظ لهم التاريخ خياناتهم لمصر ( بطرس غالي) . فأراد ان يمد امتياز قناة السويس فوثب عليه بعض الشباب الوطني وقتله. فاتهمت النيابة تسعة من الشباب. أولهم ( ابراهم الورداني) بتهمة القتل العمد ، و الباقين بتهمة الاشتراك في الجريمة. وتبين من المحاكمة أن الشباب جميعاً أعضاء في جمعية وطنية سرية. تجمعهم مبادىء واحدة ولكنهم لم يشاركوا في مقتل بطرس غالي . فصدر الحكم باعدام القاتل ، ولم يعاقب الآخرون .
فاستصدرت الحكومة من خديوي مصر القانون رقم 28 لسنة 1910 باضافة المادة 47 مكرر الى قانون العقوبات لتفرض العقاب على مجرد اتفاق شخصين او أكثر على أي شيئ اذا كان ارتكاب الجنايات او الجنح من الوسائل التي " لوحظت " في الوصول اليه .
" لوحظت " مبنية للمجهول دون تحديد من الذي " لاحظ " ودون ان يكون المتفقون قد أدخلوها صراحة في اتفاقهم، ودون ان تكون قد أدت فعلا الى ارتكاب أية جريمة.
كان ذلك هو اول سيف أصلت على رقاب الناس في مصر لمنع أي نشاط سياسي شعبي حتى لو اقتصر على ثلاثة ، حى لو توقف عند التفكير معا، حتى لو كانت غايتهم مشروعة ما دام ما فكروا فيه واتفقوا عليه قد " لوحظ " ان الوصول اليه قد يؤدي الى ارتكاب جنحة ( توزيع منشورات مثلا) ، وحتى لو لم يفعلوا الا مجرد الكلام ، ثم " يعفى من العقوبة " كل من بادر منهم باخبار الحكومة بوجود اتفاق . وبهذه الفقرة بدا التخريب الاخلاقي وتشجيع الناس على الخيانة والغدر والتجسس على غيرهم مقابل مكافأتهم باعفائهم من العقوبة. وبها بدأ تدريب الناس على عدم ثقة بعضهم ببعض .
ومنذ عام 1910 كانت هذه المادة هراوة ترهب كل الجماعات والجمعيات والاحزاب والتحركات التي تفكر مجرد تفكير في مقاومة الاستبداد . وتفسد الضمائر وتعلم الناس الحذر من مجرد الحوار خوفا من ان يؤدي الحوار الى اتفاق . وتشكك الناس في أقرب الناس اليهم خوفا من التبليغ عما يتحاورون فيه او يتفقون عليه حتى في جلساتهم العائلية الخاصة .

سبب آخر لتحديد النسل:

هذا قانون آخر أصدره خديوي مصر في 18 اكتوبر 1914 برقم 10 وما يزال ساريا حى الان . وهو يسد ثغرة في قانون 1910 . اذ ماذا يحدث لو ان بعض المصريين قد اجتمعوا لمراقبة حدث او بمناسبة حدث اجتماعا تلقائيا بدون اتفاق سابق او لاحق وبدون ان يكون وراءهم او امامهم من نظمهم او ينظمهم؟ وماذا يحدث لو ان معتوها او مجنونا أو صبيا صغيرا قد ارتكب في هذا الاجتماع او التجمع جريمة ما؟.. يقول القانون انه اذا زاد عدد المجتمعين عن خمسة فهو" تجمهر" ويفرض العقاب على المتجمهرين اذا أمرهم رجال السلطة بالتفرق فلم يفعلوا .، او اذا كان غرضهم " التأثير " على السلطة في أعمالها. اما اذا وقعت جريمة بقصد تنفيذ الغرض من التجمهر فان جميع الذين حضروا التجمهر يعتبرون مسئولين عن الجريمة حتى لو لم يعرف فاعلها او ثبت ان الاخرين لا يعرفونه، حتى لو كانوا يعرفونه ولكنهم لم يتوقعوا الجريمة ولم يوافقوا عليها.
وهكذا كان على الناس منذ الخديوي ان يحذروا ان يزيد عدد المجتمعين منهم على خمسة حتى لا يكونوا تجمهرا.. فان وافاهم مصادقة صديق سادس فعليهم ان ينفضوا . وكان على العقلاء او الحريصين منهم على سلامتهم أن يسارعوا بالاختفاء في أقرب مكان اذا لاحظوا- ولو على بعد- لفيفا من المتجمهرين يقفءلى طريقهم . وكان عليهم ان يدخلوا السجن اذا عنّ لواحد او مدسوس في تجمهر ان يرتكب جنحة ( توزيع منشور مثلا) فانهم جميعا سيكونون مسئولين عنه، من رأى مثل من لم ير.
ولما كان " الخمسة " اقل من متوسط عدد افراد الاسرة في مصر، وكان من عادة الاسر في مصر أن يخرجوا معا في ليالي الصيف لينعموا بالاجتماع على ضفاف النيل ، فقد يكون على الاسر المصرية ان تحدد نسلها فلا تتجاوز الاسرة خمسة والا كان من حق أي شرطي ان يعتبرهم تجمهرا ويأمرهم ان ينفضوا..

ضيوف بحكم القانون:

وماذا يحدث لو ان بعض المصريين قد رأوا الا يتركوا الامر للمصادفات فأرادوا ان يجتمعوا اجتماعا منظما. هذا من حقهم . ذلك لان القانون رقم 14 لسنة 1923 (30 مايو 1923 ) يقول في مادته الاولى : " الاجتماعات العامة حرة على الوجه المقرر في القانون ". أما الوجه المقرر في القانون فهو :
بالنسبة الى الاجتماعات العامة فانها تعتبر " عامة " اذا كانت في مكان عام او محل عام او " خاص " يدخله او يستطيع ان يدخله أشخاص ليس بايديهم دعوات شخصية فردية . او - وهذا هو بيت القصيد- اذا رأى المحافظ او المدير او سلطة البوليس ، بسبب " موضوعه " او عدد الدعوات او طريقة توزيعها او " بسبب أي ظرف آخر " انه اجتماع عام . اي ان مناط اعتبار الاجتماع عاما او خاصا هو في النهاية ما تراه السلطة حتى ولو كان اجتماعا بين أصدقاء في شقة مغلقة ما دام موضوعه عاما (سياسيا بالدرجة الاولى) .
مثل هذا الاجتماع الحر " يتعين إخطار السلطة به قبل موعده بثلاثة أيام وان يشمل الاخطار موضوعه والغرض منه وان تشكل لجنة مسئولة عنه وان يوقع الاخطار خمسة من المواطنين " المعروفين بحسن السمعة " ( كذا..) و للشرطة حق حضوره ، واختيار المكان الذي يستقر فيه رجالها وان تفضه ولو بالقوة " اذا القيت في الاجتماع خطب او حدث صياح او أنشدت أناشيد مما يتضمن الدعوة الى الفتنة " .. " او " خرج الاجتماع عن الصفة المعينة له في الاخطار " كما للشرطة ان تمنع هذا الاجتماع من البداية اذا رأت ان من شأنه ان يترتب عليه اضطراب في النظام .. والامر متروك لتقديرها .

قوانين تحت الطلب:

أما بالنسبة الى المظاهرات.. فانها- بالرغم من انها منظمة - تخضع لاحكام التجمهر فيكون كل من يشترك فيها مسئولاً عن كل ما يقع من أي فرد اشترك فيها . ولكن- لانها منظمة - فيجب ان يتم اخطار الشرطة عن خط سيرها وللشرطة ان تختار لها خط سير آخر ، ولها بداهة ان تمنعها من البداية وان تفضها في اي وقت ولو من اجل " تأمين المرور في الطرق والميادين " هكذا يقول القانون .
هذه القوانين التي تحرم اتفاق الناس ، وتحرضهم على الغدر ، وتمنعهم من التجمهر أو الاجتماع وتأخذ البريء منهم بذنب المذنب ، وتفرض على الناس مسئولية جماعية بصرف النظر عن نواياهم أو مواقفهم ، تبدو في غاية السخف الذي يجردها من امكانية التطبيق الجاد . هو كذلك انها لا تطيق " عادة " .. مثلها مثل عشرات الجرائم المستعارة من قوانين لا تمت الى مجتمعاتنا بصلة ( زحم الطريق العام - غسل عربة في الطريق - ترك الحيوانات تركض - الاصوات المرتفعة في الليل - العويل في الجنازات - القاء مياه في الطريق - قطع الخضرة في الحدائق - المشاجرات الخفيفة … الخ .
ولكنها ما تزال قائمة وسارية منذ ان أصدرها الخديوي فهي قوانين " تحت الطلب " تطبق حين يراد لها ان تطبق وتتجاهلها السلطة حين ترى تجاهلها . ومحصلة كل هذا عمليا ان الامكانية الفعلية للاتفاق او الاجتماع او التظاهر متوقفة على ارادة السلطة .. فان وقع ما لا تريده فان لديها كل ما تحتاج اليه من القوانين الرادعة . ويعلم الناس هذا فيهمهم - قبل أي شيئ آخر- ان يعرفوا ما اذا كانت السلطة تريد لهم التجمهر او الاتفاق او الاجتماع او التظاهر أم لا .

القيد الحديدي :

اذا كانت تلك قيود واهنة فان ثمة قيدا فرض يوم 25 أغسطس 1939 وما يزال قائما حتى الان . كان اسمه قانون الاحكام العسكرية يوم ان صدر لاول مرة بمناسبة دخول " الحلفاء " الحرب . ثم أصبح اسمه قانون الطوارئ حتى عام 1972 فادخلت عليه تعديلات ضمن قانون " حماية حريات المواطنين"...
ولقد سبق أن أشرنا الى السلطات التي تمنحها حالة الطوارئ للحكومة . يكفي ان نجمل القول هنا فنقول انه في ظل قانون الطوارئ منذ 1939 تصبح للحكومة سلطة مطلقة لا حدود لها من دستور او قانون ولا مجال فيها لأي نوع من الحريات السياسية او المدنية. ولا رقابة عليها من أية هيئة قضائية.

رؤوس الذئاب الطائرة:

كانت تلك هي القيود الحديدية والواهنة. ولقد بلغ من قسوة الاولى وسخافة الثانية انها لم تستعمل الا قليلا، وحين تريد السلطة . ولكن حياتها الطويلة منذ أوائل هذا القرن حولها الى قيود وحدود للحياة العادية للبشر. وأدت تلك المعايشة الطويلة الى آثار لا يستطيع ان يتجاهلها الا الواهمون . وان آثارها لأكثر خطورة ، بالنسبة لمشكلة الديموقراطية ، من عقوباتها . هذه الاثار هي تدريب الناس على معايشتها وتحولها، وهي صامتة في نصوص القوانين ، الى ضوابط لافكار الناس وسلوكهم . استطاعت تلك القيود الى حد كبير ان تعود الناس " ضيق " الحركة حتى بدون ان تكبل أرجلهم . ولم يعتادوا ذلك بدون مبرر، بل ان رؤوس الذئاب الطائرة كثيرة علمتهم - منذ الخديوي عباس الثاني- الا يراهنوا بسلامتهم على قانون نائم مادام القانون يستطيع ان يجد في أي لحظة، من يوقظه.

والحدود :

أما الحدود فقد ولدت مع ثورة 23 يوليو عام 1952.
لقد قامت الثورة ومصر محتلة عسكريا منذ سبعين عاما. وجاءت هي ذاتها حلقة من حلقات النضال الوطني من أجل انهاء ، الاحتلال الانجليزي . وكان اول أهدافها المعلنة : " القضاء على الاستعمار وأعوانه ".. وكان عبد الناصر القائد الرابع للخط الثوري التحرري الذي بدأ بأحمد عرابي ثم مصطفى كامل ثم محمد فريد...
ولقد أصرت الثورة على هدف التحرر الوطني منذ مولدها وفي كل مراحلها ولم تنخدع - كغيرها- حين غير الاستعمار شكله فتحول من الاحتلال العسكري الى التبعية . وتعرضت الثورة في سبيل التحرر الوطني لكل أنواع الاعتداء الخارجي والتآمر الداخلي . وخاضت معاركه على ساحته داخل مصر وخارجها. والتحمت بأعدائها في كل أرض وبكل وسيلة وعلى كافة المستويات. وانتصرت مرارا وانهزمت مرارا. ولكنها لم تتخاذل . ولم تساوم ولم تستسلم أبدا حتى خسرت كل شيئ تقريبا الا ارادة التحرر كما حدث عام 1967. وكان قائدها، جمال عبد الناصر رمزا مصريا ، ثم عربيا ، ثم دوليا لابطال معارك التحرر الوطني الذين لا يستسلمون ، ومن هنا - بالدرجة الاولى- استحق مكانته العالية بين أبطال التاريخ .
ولقد دفع الشعب المصري في مصر وخارج مصر ثمن النضال التحرري تحت قيادة جمال عبد الناصر.. ولقد كان الثمن في بعض الاوقات فادحا . ولعل من أفدح الاثمان التي دفعتها مصر مقابل تحررها، والحفاظ على حريتها، بعد الضحايا البشرية الغالية، ما أصاب قضية الديموقراطية.
لا ينكر احد ان المعارك الخارجية تفرض حدودا ضيقة للنشاط الديموقراطي في الداخل . ولدى كل دولة من دول العالم سلسلة جاهزة من القوانين، ما ان يتهدد سلامتها خطر، حتى تعطل بها أكثر احكام الدساتير الديموقراطية وتوقف بها أعز الحريات التقليدية . ولقد جرب الشعب المصري (العربي) في مصر تلك الحدود الضيقة . فلاكثر من خمس سنوات ابتداء من عام 1939، عاش معدوم الحرية تقريبا: حرية المأكل ، حرية الملبس، حرية المتاجرة ، حرية الانتقال ، حرية الرأي والنشر والاجتماع وحرية اختيار حكومة ولو اختيارا شكليا . في 4 فبراير 1942 فرضت على مصر حكومة بقوة السلاح الانجليزي . بل ان كل قيمة من قيم هذا الشعب قد انتهكت علنا تحت أقدام الجند من أشتات البشر الذين أبيحت لهم مصر أكثر من خمس سنوات . ولا يزال جيلنا يذكر كيف كان المصريون يجتنبون المذلة والاذلال بان يقبعوا في بيوتهم . وكيف كانت الحياة تسلب و الاموال تغتصب والاعراض تنتهك علنا في المدن والقرى والطرقات في وضح النهار، تحت حكم أحزاب مصر .. " لتأمين سلامة قوات الحلفاء والترفيه عن جنودهم ". ولم يذرف أي من المنافقين اليوم دمعة واحدة على الحرية او على الديموقرقراطية! .
ان عزاء الشعوب في هذا ان الحرب موقوتة مهما طالت . وهو عزاء مشروع . اذ حيث تكون سلامة الوطن في خطر تتحدد الديموقراطية مشكلة والديموقراطية حلا بحدود سلامة الوطن . أما الذين لا يرون علاقة بين معارك التحرر الوطني ومشكلة الديموقراطية فهم جاهلون . وأما الذين يرفعون أصواتهم فوق صوت المعركة هاتفين للديموقراطية فهم يريدون ان ينسحبوا من المعركة تحت غطاء الدعوة الى الديموقراطية . انم يريدون - نفاقا - ان يقال عنهم ديموقراطيون بدلا من انهزاميين .
ولقد طالت معارك التحرر الوطني التي خاضتها ثورة 23 يوليو تحت قيادة عبد الناصر حتى كادت ان تستغرق كل حياتها وأثرت في مشكلة الديموقراطية وحلها في مصر من نواح عدة .

الحرية والتحرر:

فرضت معارك التحرر الوطني حدودا للحرية على ثورة 23 يوليو وقائدها عبد الناصر.. نريد ان نقول ان عبد الناصر قد واجه مشكلة الديموقراطية في مصر داخل نطاق تلك الحدود لم يستطع ، ولم يرغب في ، ان يتخطاها بدون انكار لاثرها على المشكلة وامكانات حلها . ما هي تلك الحدود ؟
- منها الاصرار على الوحدة الوطنية وعدم السماح بأي صراع اجتماعي حاد او سياسي عنيف او أية انقسامات في الجبهة الداخلية . وقد أثر هذا في موقفه من الاحزاب التي لم يسمح بتعددها ابدا بالرغم من انه كان يتوقع نشوء الاحزاب وتعددها في مصر ولا يعترض عليه . قال يوم 10 مارس 1957 في حديث الصحفي الهندي كارنجيا ممثل صحيفة بليتز : " ان الزعماء الوطنيين المخلصين سينتخبون وان البرلمان ستقوم فيه تكتلات ومجموعات وربما تكون فيه معارضة في المدى الطبيعي للاحداث كما تبرز بعد ذلك، طبعا، قوى سياسية جديدة ، ومن المحتمل ان تكون هناك أحزاب ". ولا شك في ان الوحدة الوطنية تمثل حدا على النشاط الديموقراطي يجعل الفاصل ، بين النشاط المشروع والنشاط المعادي او بين المعارضة والتآمر فاصلا دقيقا وقد يختلطان على مستوى القاعدة النشيطة او في تقدير السلطة المتوترة ، فتدفع الحركة الديموقراطية ثمن التآمر او الخوف من التآمر.
- ومنها استمرار حالة الطوارئ مما تستدعيه من تركيز في السلطة ورقابة على الصحف ووسائل النشر وأجهزة الاتصال والاجتماع وتحركات الوافدين والمقيمين واستبدال المحاكم الاستثنائية بالمحاكم الطبيعية وتجاوز اجراءات التحقيق العلني الى التحقيق السري والاعتقال والحبس المطلق .. الخ . وكلها حدود ضيقة تحصر او تحاصر النشاط الديموقراطي . الغى عبد الناصر حالة الطوارئ عام 1964 ولكنه لم يلبث ان أعاد اعلانها بمناسبة عدوان 1967. ولا تزال قائمة.
- ومنها صعود القوات المسلحة الى المركز الاول من مراكز القوى في الدولة على أساس انها المسئولة الاولى عن سلامة الوطن . واكتسابها، بحجة الحرب او خطر الحرب او الاستعداد للحرب ، سلطة تعلو في كثير من المجالات على السلطة المدنية التي تصبح احدى وظائفها الاساسية تنفيذ متطلبات القوات المسلحة ماديا و اقتصاديا و بشريا وتأمينا وأمنا ، وتحصينها ضد المعرفة او النشر او النقد . أي قيام دولة عسكرية فوق الدولة المدنية . وقد بلغ أمر هذا الصعود حد صدور قانون (160 لسنة 1962) يحرم على ديوان الموظفين والوزارات والمصالح والهيئات والشركات العامة والخاصة والجمعيات تعيين أي موظف او عامل في أية وظيفة الا بعد أخطار مكتب نائب القائد الاعلى ( المرحوم المشير عبد الحكيم عامر)، ثم الانتظار شهرا لمعرفة ما اذا كان لدى سيادته من افراد القوات المسلحة العاملين فعلا من يرشحه لاشغال الوظيفة الخالية. فاذا ما رشح لها أحدا أصبحت له الاولوية في التعيين على المرشحين معه من نفس مرتبة النجاح . ثم- وهذا أغرب- اذا تم تعيين مرشح القيادة فانه لا ينتقل اليها ليشغلها فعلا بل تبقى شاغرة ويحتفظ له بها ويكون في حكم المعار الى القوا! ت المسلحة أي يتقاضى راتبها . صدر هذا القانون بمناسبة حرب اليمن وكاد يشل الجهاز المدني للدولة . كما ان الذين تابعوا او يتابعون اجراءات اسقاط الدولة العسكرية التي اتخذها عبد الناصر بعد هزيمة 1967 وما جرى من محاكمات وما لا يزال يجري عن جرائم التعذيب لا بد قد لاحظ ان كل الجرائم قد ارتكبت في السجن الحربي التابع للقوات المسلحة وان كل المتهمين من أفراد وقيادات القوات المسلحة ( الشرطة العسكرية او المخابرات العامة) وان كان أغلب المجني عليهم مدنيين أسندت اليهم اتهامات بارتكاب جرائم تدخل في نطاق القانون العام .. ثم انه لم تحدث حادثة تعذيب لاي متهم ابتداء من عام 1968. علة ذلك ان " الدولة العسكرية " كانت قد استطاعت ان تجرد وزارة الداخلية وأجهزتها ، بما فيها جهاز أمن الدولة ومصلحة السجون ، من سلطاتها وتسند الى الاجهزة العسكرية وظائف المحافظة على الامن الداخلي فما ان سقطت " الدولة العسكرية " وعادت صلاحيات وزارة الداخلية اليها انقطع سيل الجرائم الجسيمة التي كان بعض المتهمين يتعرضون لهـا.
- ومنها ، مصيبة العصر في العالم كله ، تضخم أجهزة الامن الداخلي ( أمن الدو لة) و الخارجي (المخابر ات العامة) وتزويدها بامكانات مالية غير معروفة و غير قابلة للمعرفة ، وبسلطات مطلقة الا من حد الحفاظ على أمن الدولة كما تقدره هي ، وبمعدات خيالية تسمح لها بان تضع كل مواطن تحت مجهرها من حيث لا يدري ، وبالمقدرة على ان تباشر مهمتها خفية : تراقب خفية، وتتابع خفية، وتدرس خفية، وتقرر خفية، وتنفذ خفية كأنها أشباح محبطة. ذلك - كما يقال- لتستطيع ان تصارع أشباحا لا تقل عنها خفاء تمثلها أجهزة التجسس والتخريب التابعة لدول معادية أكثر مالا وأدوات ورجالا مزروعين خفية أيضا في قلب المجتمع . تستطيع أجهزة الأمن- لمن يريد ان يعرف - ان تلتقط، وهي على بعد كيلومترين او أكثر أي حديث يدور ولو في حجرة مغلقة . نعرف هذا من القضايا التي طرحت على المحاكم . وعرفنا من الصحف ، ورأينا على صفحاتها صور عقل الكتروني قالت الصحف انه يستطيع ان يدلي بكافة المعلومات عن أي مواطن في أقل من دقيقة . وهذا يعني ان كافة المعلومات الخاصة بأي مواطن كانت قد جمعت من قبل وأودعت بطن الجهاز ذي الذاكرة الحديدية. وكل هذا مخيف ومصدر للخو! ف . الخوف من المجهول قبل الخوف من المعلوم . والخوف شلل يصيب البشر فيعجزهم عن الششاط الديموقراطي .
- ومنها خضوع الاعلام ووسائله الحديثة بالغة التأثير (الصحف والاذاعة والتليفزيون والكتب) لمقتضيات معارك التحرر، اما عن طريق الرقابة الصريحة او الضمنية واما بواعز الحذر الوطني السليم من التورط في خدمة العدو او اضعاف ثقة الشعب بنفسه. وليس من بين وظائف الاعلام، خلال الصراع من أجل التحرر الوطني ، ان يتطوع بوضع الحقائق الاقتصادية او الاجتماعية او السياسية أو العسكرية تحت تصرف أجهزة الاستماع المعادية . بل من وظائفه ان يذيع وينشر ما يخدم معركته الوطنية ( بلغ مجموع السفن الالمانية التي أعلن الحلفاء اغراقها في الحرب الاوروبية الثانية 1939- 1945 أضعاف أضعاف ما ملكته المانيا من سفن في كل تاريخها منذ غزوات الفيكنغ . وخاضت مصر وسورية حربا اعلامية مدعومة فكريا وسياسيا واحصائيا استمرت عاما ثم انتهت في لقاء في أقل من خمس دقائق مصافحة في مؤتمر الرياض لتتعانق أجهزة الاعلام في الهواء وعلى الورق وفي رؤوس البشر) .
ولما كانت معرفة الحقائق هي المادة الخام التي يكوّن منها المواطنون آراءهم ويحددون على ضوئها مواقفهم ويمارسون- على أساسها حرياتهم ، او ينكصون عن ممارستها فان كل تزييف في الحقائق ولو كان لتضليل الاعداء وحماية الوطن ، ينعكس زيفا على الديموقراطية وممارستها .
- ومنها أخيرا وليس آخرا ، تحمل الاقتصاد الوطني أعباء المعارك التحررية اقتطاعا من بنية اقتصادية ضعيفة أصلا . ولقد أصبحت تكلفة المعارك أبهظ من ان تطيقها الدول المتقدمة اقتصاديا مما حمل دولة مثل بريطانيا على قبول تصفية امبراطوريتها ، وربما حمل الدول الاستعمارية كافة على أن تستغني بالاستعمار الجديد (التبعية الاقتصادية) عن الاستعمار القديم لتوفر- كما كان ذلك ممكنا- نفقات جيوش الاحتلال . فما بالنا بالدول الفقيرة او النامية . في مثل هذه الدول تعوق معارك التحرر التي لا بد منها بتكلفتها الباهظة حركة التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي . فتبقى على الفقر ولا تسمح بالانتقاص منه الا قليلا. ليبقى الفقراء عائقا فعليا - أكثر العوائق صلابة في الواقع - دون الممارسة الديموقراطية.
ولقد كان هذا موجودا حدودا وقيودا على عهد عبد الناصر.

قبل اللقاء:

في تلك الحدود واجه عبد الناصر مشكلة الديموقراطية في مصر وحاول حلها. وابتداء من الان سنترك الحديث لعبد الناصر والمشكلة التي واجهها . وسنكتفي بمراقبة الصراع بينهـما. وسيلتقي معنا كل القراء في موقع المراقبة . فدعونا نتفق ، من الان على أمرين :
الاول : ان يحاول كل منا، وبقدر ما يستطيع، ان يحتفظ لنفسه باحكامه السابقة على مشكلة الديموقراطية في مصر او على عبد الناصر وان يكتفي بالمراقبة الى ان ينتهي الحديث على الاقل . ان الحيدة، او اصطناع الحيدة - مؤقتا- سيجعل المراقبة أكثر فائدة وأكثر متعة أيضا . وليس أسخف من القول " لو كنت مكان عبد الناصر لفعلت كذا... " الا القول " لو كنت عبد الناصر لفعلت كذا.. فلا احد غير عبد الناصر كان في مكانه . وعبد الناصر الذي مات لا يتكرر . دعونا اذن نراقب حديث الرجل مع مشكلة الديموقراطية في مصر بأكبر قدر من الموضوعية.
الثاني : اذا لم تكن الحيدة ممكنة، وهي على أي حال صعبة ، فعلى كل واحد ان يحدد موقفه من حرية وطنه قبل أن يحدد موقفه من حريته الشخصية . وقبل ان يتشدق أي واحد منا بالكلمات الكبيرة عن الديموقراطية عليه ان يختار بين الاستقلال والتبعية . لقد اختار عبد الناصر، قائد ثورة 23 يوليو حرية الوطن واستقلاله منذ البداية . وقضى وهو في ميدان معارك التحرر العربي . وسيكون على أي منصف مهما يكن اختياره ، ان يتتبع تاريخه مع مشكلة الديموقراطية في مصر انطلاقا من البداية التي اختارها الرئيس الراحل ... الى النهاية .

(5) البحث عن الطريق

التجربة والخطأ:

في يوم 21 مايو 1962 قدم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية " ميثاق العمل الوطني " بقوله : " الميثاق عبارة عن مبادئ عامة واطار للعمل او للخطة . نتج عن ايه؟.. نتج عن تجربة وممارسة عشر سنوات .. العشر سنوات اللي فاتت كانت فترة تجربة، فترة ممارسة.. كانت فترة مشينا فيها بالتجربة والخطأ !.
ولم تكن تلك هي المناسبة الوحيدة التي ذكر فيها الرئيس الراحل افتقاد الثورة ، حين قامت عام 1952، نظرية ومنهجا، وانتهاجها التجربة والخطأ أسلوبا للممارسة . تجرب فتخطىء فتصحح . قال يوم 7 أبريل 1963: " بالنسبة لنا تجربتنا قابلتنا أسئلة كثيرة بهذا الشكل . وكان لا بد ان نوضحها في أول يوم لم يكن عندنا منهج . لم يكن عندنا نظرية. ولم يكن عندنا منظمة شعبية ولكن كان عندنا المباديء الستة ".
وقد أسند الرئيس جمال عبد الناصر تلك الظاهرة ، أعني الاسلوب التجريبي ، الى أسبابها التاريخية وظروف قيام ثورة 1952 ذاتها : تلك الظروف التي أشرنا الى بعضها من قبل . قال يوم 25 نوفمبر 1961: " ناس كتير بيقولوا ما عندناش نظرية. بدنا والله نقول لنا نظرية . فين النظرية اللي احنا ماشيين عليها؟ بيقول اشتر اكية ديموقراطية تعاونية . إيه هي النظرية ؟ إيه حدود النظرية؟.. انا بأسال، ايه هي أهداف النظرية؟.. انا باقول اني ما كنش مطلوب مني ابدا في يوم 23 يوليو اني اطلع يوم 23 يوليو معايا كتاب مطبوع واقول ان هذا الكتاب هو النظرية . مستحيل . لو كنا قعدنا نعمل الكتاب ده قبل 23 يوليو ما كناش عملنا 23 يوليو لان ما كناش نقدر نعمل العمليتين مع بعض " .
وهكذا مع الاعتراف بغيبة النظرية ، طرح المشكلة الفكرية طرحا يتضمن الاشارة الى سباق بين الفكر الذي لا بد له من كل الوقت اللازم والكافي لنضجه وبلورته وهو وقت قد يستغرق حياة جيل او أجيال، وبين موقف مصر المتردي بسرعة متزايدة . قبل 1952، مما كان يستوجب الانقاذ بالممكن بدون انتظار لما يجب ان يكون . وكان الممكن هو ما عرف باسم المبادئ الستة للثورة ومن بينها اقامة ديموقراطية سليمة.
هذا فضلا عما يعرفه الذين كابدوا مشاق المعرفة العلمية من ان اشعال الثورة أسهل بكثير من ابداع نظرية. المهم ان هذا المنهج التجريبي قد أدى إلى ان كان لثورة 23 يوليو أكثر من موقف واحد من مشكلة الديموقراطية في مصر. وفي بعض الاوقات تغير موقف الثورة من المشكلة من النقيض الى النقيض في شهر واحد. ويبدو هذا واضحا من تتبع القرارات المتتالية التي أصدرتها الثورة في سنواتها الاولى .

قرارات .. للالغاء:

بعد الثورة مباشرة أبقت الثورة علي دستور 1923. واستبدلت بملك فاسد ملكا طفلا بريئاً تحت الوصاية. وشاورت الاحزاب وحاورتها . وارتضت منها ان تطهر نفسها من بعض قادتها وان تعيد صياغة برامجها كما لو كانت مشكلة الديموقراطية مشكلة أشخاص فاسدين ان سقطوا قامت الحياة الديموقراطية السليمة.
هذا موقف.
ومع هذا فقبل ان ينقضي عام 1952 رأت قيادة الثورة ان مشكلة الديموقراطية أكثر من مشكلة أشخاص فاسدين فأصدرت يوم 10 ديسمبر 1952 قرارا جاء فيه : " أعلن باسم الشعب سقوط ذلك الدستور، دستور 1923 وانه ليسعدني ان أعلن في نفس الوقت الى بني وطني ان الحكومة آخذة في تأليف لجنة تضع مشروع دستور جديد يقره الشعب ويكون منزها عن عيون الدستور الزائل محققا لآمال الامة في حكم نيابى نظيف وسليم ".
وهذا موقف آخر.
أغرب من الموقفين موقفها من النظام الملكي . فقد أسقطت دستور الملك في 10 ديسمبر 1952 ولم تعلن سقوط الملكية وقيام الجمهورية الا بعد ستة أشهـر تقريبا في 18 يونيو 1953.
ثم انها ارتضت من الاحزاب تطهير نفسها واعادة صياغة برامجها ، وأصدرت أول قانون لتنظيم الاحزاب في تاريخ مصر، تقول مادته الثانية : " للمصريين الحق في تكوين الاحزاب السياسية ولكل مصري الحق في الانتماء لاي حزب ". وتقول مادته الثالثة : " ان الحزب لا يحل الا بحكم قضائي يصدر من محكمة القضاء الاداري بمجلس الدولة . "
هذا موقف.
ولكن قبل أن ينقضي ثلاثة أشهر أصدرت يوم 16 يناير 1953، اعلانا بحل الاحزاب السياسية القائمة وتحريم انشائها في المستقبل (مرسوم 37 لسنة 1953) . وجاء في الاعلان : " اتضح لنا ان الشهوات الشخصية والمصالح الحزبية التي أفسدت أهداف ثورة 1919 تريد ان تسعى بالتفرقة في هذا الوقت الخطير من تاريخ الوطن فلم تتورع بعض العناصر عن الاتصال بدولة أجنبية وتدبير ما من شأنه الرجوع بالبلاد الى حالة الفساد السابقة.. ".
وهذا موقف آخر.
ثم انها أصدرت يوم 13 يناير 1953 مرسوما بتشكيل لجنة من خمسين عضوا لتعمل في " وضع دستور يتفق مع أهداف الثورة " . ومع انها لم توقف عمل اللجنة ولم تلغها الا انها لم تصبر الا يومين حتى أصدرت اعلان 16 يناير 1953: " بتحديد فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات ". وأصدرت يوم 10 فبراير 1953 اعلانا دستوريا ببيان نظام الحكم في فترة الانتقال : يتولى مجلس قيادة الثورة أعمال السيادة العليا. يتولى مجلس الوزراء السلطة التشريعية. ويتولى السلطة التنفيذية مجلس الوزراء والوزراء كل فيما يخصه. ويتولى المتابعة والمراقبة مؤتمر يتألف من مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة مجتمعين .
فبدا كما لو كانت الثورة قد اختارت تأجيل حل مشكلة الديموقراطية الى ما بعد فترة الانتقال . هذا موقف . غير انه لم يمض عام واحد على هذا الموقف حى أصدرت الثورة في 5 مارس 1954 قرارا ينص على : " اتخاذ الاجراءات فورا ( لاحظ فورا ..) لعقد جمعية تأسيسية تنتخب عن طريق الاقتراع العام المباشر على ان تجتمع خلال شهر يوليو 1954 وتكون لها مهمتان : الاولى مناقشة مشروع الدستور الجديد و اقراره . والثانية القيام بمهمة البرلمان الى الوقت الذي يتم فيه عقد البرلمان الجديد وفقا لاحكام الدستور الذي ستقره الجمعية التأسيسية ".
فبدا كما لو كانت الثورة قد اختارت ، النظام البرلماني حلا لمشكلة الديموقراطية.
غير ان هذا القرار لم ينفذ .
اذ ما لبثت الثورة ، وقبل مرور شهر واحد على اصداره ، ان أصدرت يوم 26 مارس 1954 قرارا آخر جاء فيه : " اولا : ارجاء تنفيذ القرارات التي صدرت يوم 5 مارس الحالي حتى نهاية فترة الانتقال . ثانيا: يكل فورا ( فورا ايضا..) مجلس وطني استشاري يراعى في تمثيله الطوائف والهيئات والمناطق المختلفة ويحدد تكوينه واختصاصاته بقانون " . وهو قرار مستخرج من عصور ما قبل الديموقراطية يوم ان كان الملوك يختارون ممثلين للطوائف والمناطق في مجالس استشارية تكون مهمتها مقصورة على ابداء الرأي والنصيحة بدون التزام او الزام .
ولسنا في حاجة الى القول بان قانون تكوين ذلك المجلس الوطني الاستشاري لم يصدر قط وبالتالي فان قرار 29 مارس 1954، في هذه الجزئية ، لم ينفذ أيضا .
ثم ، أخيرا وليس آخرا ، ان لجنة الخمسين التي كانت قد تشكلت بمرسوم 13 يناير 1953 لوضع مشروع دستور " يتفق مع مباديء الثورة " كما جاء في قرار تشكيلها ، او دستور يحقق " امال الامة في حكما نيابى نظيف وسليم " كما جاء في اعلان سقوط دستور 1923 ، قد أعدت مشروعها وقدمته فعلا الى مجلس الوزراء يوم 17 يناير 1955. ولكن قيادة الثورة لم تقبله بحجة ان نظام الحكم فيه نيابي أكثر مما يجب ووضعت بدلا منه دستورا الغته يوم 16 يناير 1956 اخر يوم في فترة الانتقال وأرجأت العمل به الى يونيو 1956 التاريخ الذي كان محددا لتمام اجلاء قوات الاحتلال البريطاني .
ولم يكن دستور 1956 هو آخر المواقف . فهو ذاته قد الغي قبل مرور عامين (5 مارس 1958). بمناسبة الوحدة بين مصر وسوريا ثم عاد ذاته بعد أربعة أعوام تقريبا (27 سبتمبر 1962) . بمناسبة الانفصال، ثم ألغي مرة اخرى بعد عامين ، بصدور دستور جديد مؤقت (23 مارس 1964) .
هذه أمثلة ضربناها من التطور الدستوري لتعدد مواقف الثورة من مشكلة الديموقراطية ( في جانبها القانوني) خلال تجربة البحث عن طريق حلها . ولقد أثارت تلك التجارب وما صاحبها من صراع علني وخفي كاد يصل في مارس 1954 الى حد انهاء الثورة ذاتها .
ولا شك في ان متغيرات موضوعية كثيرة قد أسهمت في تعدد مواقف الثورة ، وتناقضها في بعض الاوقات ، من مشكلة الديموقراطية . ولكن هذا لا يحجب العامل " التجريبي " ودوره الاساسي في ان الثورة قد افتقدت لفترة طويلة المنهج العلمي الذي كان قادراً ، لو توفر لها ، على أن يمكنها من السيطرة على تلك المتغيرات ودفع حركة التطور في اتجاه الموقف الذي تحدده لها نظريتها في الديموقراطية .

التجربة الخصيبة :

بدأ جمال عبد الناصر ، اذن ، قائدا ينتهج التجربة والخطأ أسلوباً . ولم يبدأ مثقفا يملك كل الوقت اللازم للاجتهاد الفكري لمجرد، ويملك- بشكل خاص- ان يحجب أفكاره او يراجعها و يغيرها قبل ان يطرحها على الناس افعالا تؤثر في حياتهم العينية . ذلك لأنه كان قائد ثورة مهمته الاولى ان يغير ويطور وينفذ ويصحح في الواقع الاجتماعي بما يحمله من أفكار . ولكن عبد الناصر الذي لم يبدأ بنظرية قد كان- بالضرورة- أكثر قبولا للتعلم من التجربة من أصحاب النظريات . وفي حياته تجربة انسانية خصيبة لامتزاج التقدم الفكري بالتقدم العملي . فقد أعطى التجربة أفكاره واسترد من التجربة أفكارا أكثر نموا فعاد وأعطاها للتجربة ثم استرد منها .. وهكذا في عملية نمو فكري خصيبة ما تزال في حاجة الى دراسات علمية مطولة . اذ لا شك في ان دراسة عبد الناصر المفكر شيء أكثر لزوما وفائدة وصعوبة من دراسة أي مفكر آخر لم يتحمل بنفسه عبء وضع أفكاره موضع التنفيذ . كما لا شك في ان دراسة عبد الناصر الثائر أكثر لزوما وفائدة وصعوبة أيضا من دراسة أي ثائر كان قصارى دوره ان يغير ويطور وينفذ نظرية وضعت له والتزم بها من قبل ان يثور .
على أي حال فان خصوبة التجربة ستبقى مقصورة على ما تتيحه للدراسة من مجالات واسعة وخبرات هائلة في كيفية ابداع التصحيح ، خلال الممارسة ، من بين التجربة والخطأ . ولكن خصوبتها لن تطهرها من المعاناة الفعلية لآثار التجريب في حياة الشعوب . وسيبقى الخطأ خطأ حتى لو لاحقه التصحيح .
وكلاهما محسوب على التجربة وصاحبها.
غير أننا لا نستطيع إلا أن نؤكد ما أكده عبد الناصر نفسه في لقائه وفود المعلمين بالقاهرة يوم 26 يونيو 1956. قال : " ولكني أقول لكم إذا أخطأت في المستقبل فإنما يكون هذا الخطأ عن يقين وتأكد من أن العمل في مصلحة مصر وفي مصلحة أبناء مصر" .
نؤكد هذا لأن الخطأ في التجربة ، نتيجة لقصور في المنهج والنظرية ، لا يمكن أن ينال ، على أي وجه، من أن جمال عبد الناصر قد عاش ومات ابناً باراً ومخلصاً إخلاصاً مطلقاً لشعبه وأمته . ويكفيه نبلاً أنه لم يدع في أي وقت أنه يملك أكثر مما يملك فعلاً وهو كثير . وأنه لم يخطىء قط إلا واعترف بالخطأ وبادر إلى تصحيحه بما يستطيع . فلقد كان - عليه رحمة الله - أكثر الناس صدقاً مع نفسه وهي قمة الفضائل في الحاكمين .

أزمة المثقفين:

في 25 نوفمبر1961 كانت قد انقضت على قيام الثورة تسع سنوات تقريباً ، ومع ذلك لم تكن الثورة قد امتلكت بعد منهجاً أو نظرية . لماذا ؟ .. لا يكفي ، بعد تسع سنوات من التجربة والخطأ ، أن نعود فنسند غياب النظرية إلى الأسباب التاريخية التي سبقت ثورة 1952 أو صاحبت قيامها. لماذا إذن؟
لنستمع - أولأ- إلى جواب عبد الناصر على هذا السؤال الجوهري .
قال في ذلك اليوم ، 25 نوفمبر 1961، " ما نقدرش نقول ان احنا عملنا نظرية. ويا جمال إعمل لنا نظرية. انتم اللي عليكم تعملوا النظرية . المثقفين هم اللي عليهم يعملوا نظرية . يوم ما لاقي كتاب طالع عن الاقتصاد بتاعنا والتجربة بتاعتنا أو إيه اللي يجب أن يحصل فيها بأشعر بأن هذا الكتاب هو جزء كبير من النظرية ".
على هذا الوجه حدد الرئيس الراحل مسئولية البناء النظري للثورة وأسلوب هذا البناء . فمسئوليته تقع على عاتق المثقفين .
والواقع أن هذا بديهي . ففي مصر وفي غير مصر لا يمتلك القدرة اللازمة للبناء الفكري إلا المثقفون. بل انهم يتميزون بصفتهم هذه تمييزاً لمقدرتهم تلك . غير أنه ينبغي الانتباه هنا إلى من كان يعنيهم جمال عبد الناصر بالمثقفين .
في الحوار الذي دار يوم 9 أبريل 1963 في الاجتماع الخامس لمباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسوريا اقترح أحد أعضاء الوفد السوري التفرقة بين المثقفين الثوريين والمثقفين غير الثوريين . فعلق الرئيس جمال عبد الناصر على تلك التفرقة وقال : " فيه فرق بين المثقفين والمتعلمين. يعني ممكن واحد متعلم يبقى بورجوازي .. ده ما اقدرش أقول عليه مثقف . أنا بأقول عليه أنه متعلم وأستاذ كبير في أي فرع من فروع العلم .. يمكن .. لكن المفروض بالمثقف أنه مثقف اجتماعياً . زي ما بتقول مثقف اجتماعياً .. لكن إذا أطلقنا تعبير المثقفين على كل المتعلمين يبقى تعبيرنا بالنسبة لهذه العمليات غلط ".
خلاصة هذا أن عبد الناصر كان يرى أن عبء البناء النظري للثورة يقع على عاتق المثقفين اجتماعياً ، وهو ما يمكن فهمه على أنهم المثقفون النشطون في الحقل السياسي أو العاملون بالقضايا العامة .
أما عن كيفية أو أسلوب البناء النظري فقد كان عبد الناصر يرى أنه تأصيل وتطوير " التجربة بتاعتنا " ولو من خلال الدراسات التخصصية المقصورة كل منها على أحد المجالات أو بعضها . وهو يقول في الميثاق ان : " الثورة العربية وهي تواجه هذا !لعالم لا بد لها من أن تواجهه بفكر جديد لا يحبس نفسه في نظريات مغلقة يقيد بها طاقته وان كان في نفس الوقت لا ينعزل عن التجارب الغنية التي حصلت عليها الشعوب المناضلة بكفاحها ". ويقول : " ان التسليم بوجود قوانين طبيعية للعمل الاجتماعي ليس معناه القبول بالنظريات الجاهزة والاستغناء بها عن التجربة الوطنية . أن الحلول الحقيقية لمشاكل أي شعب لا يمكن استيرادها من تجارب شعوب غيره .. ان التجربة الوطنية لا تفترض مقدماً تخطئة جميع النظريات السابقة عليها أو تقطع برفض الحلول التي توصل إليها غيرها فإن ذلك تعصب لا تقدر أن تتحمل تبعاته ، خصوصاً وإن إرادة التغيير الاجتماعي في بداية ممارستها لمسئولياتها تجتاز فترة أشبه بالمراهقة الفكرية تحتاج خلالها إلى كل زاد فكري . ولكنها في حاجة إلى أن تهضم كل زاد تحصل عليه وان تمزجه بالعصارات الناتجة من خلاياها الحية ".
وهو صريح في أن البناء الفكري للثورة لا يكون بالانكفاء والاكتفاء " بالتجربة بتاعتنا "، والرفض المتعصب للتراث الفكري العالمي، ولا يكون باستعارة أسس فكرية غريبة عن تجربتنا لنسند إليها تلك التجربة، ولكن باستيعاب التراث الفكري العالمي والتجربة الخاصة معاً كمقدمة لإبداع فكري يكون خلاصة تفاعلهما الجدلي يقوم به.. " المثقفون ".
هذا ما كان يراه عبد الناصر حتى عام 1961.
فلماذا لم يقم المثقفون في مصر بدورهم ذاك؟
لأن معركة ضارية حول " مشكلة الديموقراطية في مصر " كانت قد نشبت بين عبد الناصر قائد الثورة وجماعة المثقفين . إنها المعركة التي عرفت باسم " أزمة مارس " .. والتي قال عنها عبد الناصر فيما بعد (7 أبريل 1963) : " احنا اجتزنا عقبات كثيرة قوي وقابلنا مراحل أرادت الرجعية فيها أن تستولي على السلطة. وكانت أقرب ما يكون أن تستولي على السلطة في سنة 1954.. وحصل تحالف بين الرجعية والشيوعية ".

كل يغني على ليلاه:

نحن نعرف الآن أن الوجه السياسي لعملة الرأسمالية هي الديموقراطية الليبرالية التي كانت ساثدة في مصر قبل الثورة . وحين حددت الثورة أحد أهدافها في " القضاء على سيطرة الرأسمالية على الحكم " كانت تتقدم- حتى بدون أن تدري- إلى مواقع الصدام مع الليبراليين وأفكارهم الخاصة عن الديموقراطية أي مع مثقفي مرحلة ما قبل الثورة . نقول حتى بدون أن تدري لأن الثورة لم تكن تدري فعلأ أن أولى معاركها الخطيرة ستكون مع أنصار الديموقراطية الليبرالية . وقد كان للديموقراطية أنصارها التقليديون من الأحزاب وجماعات المثقفين في مصر قبل الثورة . وكان بعض من هؤلاء المثقفين قد دافعوا دفاعاً مجيداً وقدموا تضحيات فعلية في دفاعهم عن الدستور الليبرالي ضد الاستبداد الملكي . وبالتالي فقد كان هؤلاء مع الثورة منذ البداية من أجل " الديموقراطية " كما يفهمونها . أما بعد الثورة فقد أصبح للديموقراطية الليبرالية أنصار جدد مرحليون أولئك هم الماركسيون . ولم تلبث المعركة أن نشبت فعلاً في أوائل مارس 1954.
بدأت المعركة في القمة ( مجلس قيادة الثورة ) وامتدت الى الشعب فشارك فيها. أما في القمة فقد كان السؤال هو : استمرار الثورة أم إعادة الحياة البرلمانية ؟ وكانت القرارات المختلفة والمتناقضة التي ذكرناها من قبل تمثل المراحل المتتابعة لانتصار فريق على فريق .
في ذلك الصراع اختار الليبراليون داخل مجلس الثورة ، ورمزهم محمد نجيب ، يساندهم رجال الأحزاب المنحلة وجماعات المثقفين العودة إلى النظام البرلماني الليبرالي . وكانت حججهم المعلنة أن الثورة وقد نجحت في القضاء على " المفسدين " للديموقراطية ( الملك والأقطاع ) فقد استنفدت غايتها وعليها أن تنهي ذاتها لتعود الحياة الديموقراطية الليبرالية إلى استئناف مسيرتها التي عوقها المفسدون. وان على مجلس قيادة الثورة وضباط القوات المسلحة أن يعودوا إلى ثكناتهم لاستئناف دورهم في حماية الحدود وأن يسلموا السلطة إلى حزب الأغلبية ( الوفد) . كانت تلك هي الحجة الظاهرة تساندها حجج خفية أهمها أن مجلس قيادة الثورة نفسه لم يكن يملك في ذلك الوقت بديلا لحل مشكلة الديموقراطية في مصر عن الحل الليبرالي . ولقد سبق أن أشرنا إلى ما وعدت به الثورة من عودة الحياة الدستورية وإلى أنها كانت ترى في دستور 1923 الليبرالي نموذجاً راقياً لنظام الحكم الديموقراطي وإلى أن رؤيتها لمشكلة الديموقراطية في مصر كانت محصورة أو مقصورة على من أفسدوا النظام وليس على فساد النظام نفسه . يضاف إلى هذا ان الأحزاب كانت قد قبلت شروط الثورة فاستغن! ت عن بعض قياداتها وأعادت صياغة برامجها قبل أن تلغيها الثورة . يضاف إليه النظرة المتعالية التي كان ينظر بها المثقفون الليبراليون وقادة الأحزاب السابقة إلى " شوية الضباط " صغار السن غير المعروفين من الشعب المجردين من الخبرة حتى لو كانوا غير مجردين من الإخلاص ... الخ.
كان أولئك انصاراً تقليديين للديموقراطية الليبرالية.
أما الأنصار المرحليون فكان يمثلهم في مجلس قيادة الثورة خالد محي الدين يسانده الماركسيون ( رشح محمد نجيب اليميني خالد محي الدين اليساري ، في أزمة مارس 1954، ليكون رئيساً للوزراء في مقابل انهاء الثورة) . أما لماذا انحاز الماركسيون إلى الليبراليين فلأنهم لم يكونوا من القوة بحيث يفرضون مذهبهم التقليدي في ديكتاتورية البروليتاريا أو مذهبهم المتطور في الديموقراطية الشعبية فانحازوا إلى الليبراليين على أساس ان الليبرالية - كما اعتقدوا- ستتيح لهم فرصة أكبر لتعميق التناقضات الطبقية وتعبئة الجماهير تحت قيادة الطبقة العاملة للاستيلاء في النهاية على السلطة. وكما هي العادة كانت هناك أسباب مساعدة منها أن تطوراً سابقاً كان قد حدث في حزب الوفد نفسه فأصبح يضم جناحاً شبابياً متنامياً يتجه بإطراد إلى اليسار وبالتالي يقترب بإطراد أيضاً من الماركسيين أو جناحهم الأيمن . وقد تعاون الجناحان من قبل في مواقف عدة أهمها المظاهرات الطلابية التي قامت عام 1946 وأسقطت مشروع الأتفاق مع إنجلترا المسمى مشروع صدقي- بيفن . وقد تعرض الطلاب في ذلك الوقت لعنف بالغ استحق بسببه يوم 21 فبراير 1946 أن يكون يوم الطلاب ا! لعالمي كما استحقت أحداث شيكاغو يوم 30 مايو سنة 1886 أن يكون يوم أول مايو عيد العمال العالمي . المهم أن المواقف المشتركة بين الماركسيين و الجناح الشبابي في الوفد ، واقتران عودة الليبرالية بعودة الوفد كانا - في تقدير الماركسيين- مبرراً كافياً أو مساعداً لانحيازهم إلى أنهاء الثورة وعودة الليبرالية .
يضاف إلى هذا سبب تاريخي لا بد من الإشارة إليه. ذلك ان الماركسيين كانوا قد انتهوا قبل الثورة ، من تحليلهم النظري ، وعلى ضوء الانقلابات العسكرية التي حدثت في سورية بفعل المخابرات المركزية الأميركية إلى أن انقلاباً عسكرياً أمريكياً مشابهاً متوقعاً في مصر. فما أن قامت الثورة بقيادة الضباط الأحرار حتى وقفوا منها الموقف الذي كانوا يدخرونه للانقلاب الذي كانوا يتوقعونه وقد انقضت سنون طويلة قبل أن يدركوا الخطأ الجسيم الذي ارتكبوه عندما راهنوا بكل ما يملكون على جواد النظرية.
أياً ما كان الأمر فإن الماركسيين عامة قد تبنوا ، في أزمة مارس 1954، الموقف الليبرالي وأصبح الصراع حول مشكلة الديموقراطية في مصر قائماً بين الليبراليين والثوريين . فأي الفريقين كان ديموقراطياً؟
كلاهما!!!
الأولون كانوا ديموقراطيين بالمفهوم الليبرالي للديموقراطية .
والآخرون كانوا ديموقراطيين بالمفهوم الشعبي للديموقراطية .
الأولون انحازوا إلى القلة الممتازة الحاضرة . إلى أنفسهم . والآخرون انحازوا إلى الأغلبية المسحوقة الغائبة . إلى الشعب .
هذا على مستوى التفسير النظري حتى لو كان غامضاً ، ولكن يمكن إستخلاصه بسهولة من فكرة المساواة التي كانت حجة عبد الناصر الأساسية في أزمة مارس . المساواة بين الأقلية الممتازة والأغلبية المسحوقة، إذ ان المساواة هنا تعبر عن موقف " منحاز إلى المسحوقين . قال عبد الناصر في احتفال رابطة سائقي القطارات يوم 31 مارس 1954 : " انني أعتقد جازماً بأن الثورة بدأت تحقق أهم أهدافها الرئيسية في المساواة بين أبناء هذا البلد الذي كانت تتحكم فيه قلة في الماضي .. كان في البلد 18 مليوناً ليس لهم حزب والباقي إما مخدوعون وإما مغلوبون على أمرهم وإما مضللون . " وقال في نادي رجال الإدارة ؟ مساء يوم 15 أبريل 1954 : " أنتم كرجال أتيحت لكم الفرصة لكي تأخذوا حظكم من التعليم ولكن هناك 18 مليوناً لم ينالوا هذا الحظ ويجب أن ننظر إلى أولئك الذين لم تتح لهم الفرصة لنأخذ بيدهم " .
أما على المستوى الواقعي ، نعني واقع مصر عند قيام الثورة ، فإن الأولين لم يكونوا ديموقراطيين بأي معنى وكان الثوار وحدهم هم الديموقراطيين . ذلك لأن القلة الممتازة التي انحاز اليهما الليبراليون لم تكن تعاني من أية مشكلة ديموقراطية . فهي قادرة فكراً وعلماً وخبرة ومالاً على ممارسة حقوقها السياسية. وقد استنفذت ثلاثين عاماً قبل الثورة وهي تمارسها . الذي كان يعاني مشكلة ديموقراطية حقيقية هو الشعب ، أغلبية الشعب ، الراكد الغائب الضعيف المستضعف المحكوم بدون أي أمل في أن يشارك في الحكم . وكان اختيار الليبراليين العودة إلى نظام ما قبل الثورة يعتي تماماً ابقاء مشكلة الديموقراطية في مصر بدون حل . وكان موقف الثوريين ( أنصار استمرار الثورة) يتضمن ، كحد أدنى ، معرفة صحيحة باين تقع مشكلة الديموقراطية في مصر، وإرادة متمسكة بضرورة حلها ، حتى لو لم يكونوا في ذلك الوقت عارفين على وجه التحديد العلمي كيف تحل .

تحيا الحرية.. تسقط الحرية!!

ولقد كان الصراع في الشارع المصري أكثر تحديداً ووضوحاً في الصراع في القمة . أبطال الليبرالية من المثقفين والكتاب والصحفيين و المهنيين ورجال الأحزاب .. إلى آخرهم احتشدوا في مبنى نقابة المحامين وأعلنوا انتهاء الثورة التي لم يقوموا بها وعودة الضباط إلى ثكناتهم وتسليم السلطة إلى المدنيين . يعنون أنفسهم .
أما العمال ( النقل العام خاصة) فقد احتشدوا في الشوارع يعلنون تمسكهم باستمرار الثورة ويهتفون بأعلى أصواتهم " تسقط الحرية " .. " يسقط المحامون الجهلة "!! و نشهد أن الهتاف قد استفزنا حتى كدنا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة تحديدا للعمال الأشداء . فقد كنا شباباً ندعي الثقافة وكان هتاف العمال بسقوط الحرية يتحدى كل الأفكار المنمقة الرومانسية الجميلة التي تعلمناها في الكتب . وكنا من بين القلة القليلة من المحامين الشبان الذين دافعوا عن استمرار الثورة في مقر نقابتهم وتعرضوا لموقف يكاد يكون جماعياً يتراوح بين السخرية بهم والإشمئزاز منهم ومع ذلك فإن العمال لم يفرقوا وهتفوا بجهل المحامين كافة.
ولكنا الآن بعد قدر من النضج ولو بحكم السن إن لم يكن بحكم العلم والتعلم نتذكر فنسأل : ما هي الحرية التي هتف العمال بسقوطها في مارس 1954 ؟ .. ونجيب : انها ذات الحرية التي رفع الليبراليون الويتها الممزقة في مجلس قيادة الثورة أو في مبنى نقابة المحامين . انها الحرية التي نصلي الآن كل يوم داعين الله أن يسقطها في كل مكان في العالم " . ( لم نعد نستطيع إلا الصلاة ) انها الحرية بمفهومها الليبرالي : عدم تدخل الدولة وترك المنافسة الحرة تصفي حسابات البشر كما يحدث بين الوحوش في الغابات ، وتحدد أسعار السلع . والعمال في الاقتصاد الليبرالي ليسوا إلا سلعاً تباع وتشترى ويخضع ثمنها (الأجر) للمضاربة في سوق العمل . وكما تلقى السلع المستهلكة في صناديق القمامة يلقي البشر غير المرغوب فيهم أو العاجزون عن العمل على الأرصفة . ليموتوا أو يسرقوا أو يتسولوا.. ولقد كان المتسولون من المعالم الرئيسية لشوارع مدينة القاهرة قبل الثورة . إلى درجة أنه حين تحسب المواقف التي مهدت الثورة تحتل مكاناً منها صورة نشرتها مجلة " الاشتراكية " التي كان يصدرها الأستاذ أحمد حسين تتضمن عدداً من المتسولين تحت عنوان واحد : ! " هؤلاء رعاياك يا مولاي " . كيف يمكن أن ننسى ؟ نهايته .
ولقد كان وراء موقف العمال في مارس 1954 أنهم كانوا قد تلقوا من الثورة القانون 165 لسنة 1953 الذي حرم فصلهم من العمل بدون مبرر وقضى لمن يفصل تعسفياً بأن يوقف قرار فصلة على وجه الاستعجال وان يدفع له راتبه حتى لو لم يقبل رب العمل إعادته إلى عمله . وتلقوا من الثورة قرارها الصادر يوم 16 أبريل بعدم جواز توقيع أكثر من عقوبة واحدة عن المخالفة الواحدة وعدم جواز الجمع بين أية عقوبة واقتطاع جزء من الأجر . وكان إنقاص الأجر عن طريق توقيع عقوبات الخصم منه هي " الهواية المفضلة " لأصحاب الأعمال يمارسونها بدون رقابة إدارية أو قضائية. وكان العمال في مارس 1954 قد تلقوا من الثورة القانون رقم 244 لسنة 1953 بحصر كل العمال العاطلين في مصر وإنشاء سجل لهم وتشغيلهم وإلزام أصحاب الأعمال بالإبلاغ عن طلبات العمل ومنع الوساطة وكفالة الدولة لمصروفات نقل العامل وأسرته من محل إقامته إلى حيث يقدم إليه العمل .
باختصار كان العمال في ذلك الوقت ، مارس 1954، قد بدأوا يلمسون ، لأول مرة في تاريخ مصر، " الحرية " المتحققة لهم بتدخل الدولة لحمايتهم من الفصل والاستغلال والبطالة فبدأو يدركون زيف " الحرية " الموهومة حين لا تتدخل الدولة في علاقات العمل . حرية التعاقد وحرية الفصل وحرية تحديد الأجر وحرية الاقتطاع منه . ومن واقع الدفاع عن حريتهم هتفوا بسقوط حرية الليبراليين . وكانوا في ذلك أكثر ديموقراطية من أنصار الردة في مجلس قيادة الثورة وأنصار الليبرالية من المحتشدين في نقابة المحامين لأنهم كانوا أكثر منهم واقعية . ونندم على أننا في يوم من أيام الشباب لم نفهم لغة الشعب الذي ننتمي إليه فلم نعرف كم كانت صادقة التعبير عن الحقائق الاجتماعية. وقد كان من الحقائق الاجتماعية في مارس 1954 ان المحتشدين في مبنى نقابة المحامين كانوا " يجهلون " فعلاً مشكلة الديموقراطية كما يعانيها العمال .
ثم نعجب إلى حد الدهشة ممن وضعوا أنفسهم في مقاعد التقدمية ثم كتبوا ذكرياتهم عن تلك المرحلة، أو سودوا ما توهموا انه تاريخها فقالوا ان الصراع كان يدور في القمة بين الديموقراطيين وأنصار الديكتاتورية، وهذا صحيح ، ثم أخطأوا خطأ فاحشاً فقالوا أن دعاة انهاء الثورة والعودة إلى الليبرالية وأحزابها كانوا هم الديموقراطيين . كأن الديموقراطية، كلمة تقال وليست حرية مكتسبة . كأن الديموقراطية هي حكم الأقلية وليس حكم الأغلبية ". كأن ثورة 23 يوليو 1952 ما قامت إذ قامت إلا من أجل أن يستأنف حزب الوفد وأحزاب مدرسة " حزب الأمة " حكمها الشعب العربى في مصر بعد اكثر من سبعين عاماً من تحالفها ضد الخط الوطني الثوري وبعد ثلاثين عاما من ممارستها الفاشلة للديموقراطية الليبرالية في مصر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة