الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

هل كان عبد الناصر ديكتاتورا 3 ؟؟؟؟- لعصمت سيف الدولة


من كتاب هل كان عبد الناصر ديكتاتورا 3 - عصمت سيف الدولة

 هل كان عبد اتلناصر دكتاتورا - عصمت سيف الدولة


هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً :

كان عبد الناصر في ذروة الصراع في مجلس قيادة الثورة قد استقال . وكانت حجته في ذلك ديموقراطية. لقد اختارت الأغلبية انهاء الثورة وكان هو مع استمرارها . وكان على الأقلية أن تخضع لرأي الأغلبية. وعبد الناصر لا يريد أن يخضع ويريد في الوقت ذاته أن يبقى ديموقراطياً فوجد الحل في الانسحاب . هذا الموقف لا بد أن نتذكره لأننا سنعود إلى دلالته فيما بعد. يهمنا هنا أن ننبه إلى أن قبول رأي الأغلبية حتى في المسائل المبدئية موقف ديموقراطي ليبرالي . ولكن رفض الخضوع لرأي الأغلبية والانسحاب ليس موقفاً ليبرالياً . وموقف عبد الناصر بشقيه - يعتبر- مؤشراً واضح الدلالة على أن عبد الناصر في ذلك الوقت لم يكن قد كوّن رأياً قاطعاً في الديموقراطية الليبرالية . لم يكن يرفضها تماماً ولم يكن يقبلها تماماً . وسيكون لهذا الموقف دلالات أخرى وآثار عميقة فيما يأتي من صراع بين عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية.
نكتفي الآن بالقول بأنه وقد حسم الصراع في الشارع فقد عاد عبد الناصر الى موقعه من قيادة الثورة. وسقطت كل القرارات التي صدرت في 5 مارس 1954 ( اتخاذ الاجراءات فوراً لعقد جمعية تأسيسية تنتخب عن طريق الاقتراع العام المباشر على أن تجتمع خلال شهر يوليو 1954 وتكون مهمتها الأولى مناقشة مشروع الدستور الجديد وإقراره . والثانية القيام بمهمة البرلمان إلى الوقت الذي يتم فيه عقد البرلمان الجديد . وبقي قرار 13 يناير 1953 بتشكيل لجنة وضع الدستور وقرار 16 يناير 1953 بإلغاء الأحزاب وتحديد فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات .
ومنذ ذلك الوقت، منذ مارس 1954، أولت الثورة ظهرها لليبراليين ولم تثق في مثقفي الليبرالية ودعاتها ولا في الماركسيين قط بعد مارس 1954 ولسنين طويلة . ولم يثق فيها أولئك المثقفون بدورهم وقامت تلك القطيعة التي استمرت عشر سنوات تقريباً . ولقد كانت ذات آثار خطيرة على مشكلة الديموقراطية في مصر وعلى مقدرة الثورة وقيادتها على حلها وذلك من نواح عدة :
أولاً : إن المثقفين في مصر لم يقوموا بدورهم التاريخي في البناء النظري للثورة وهو الدور الذي لم ينكره عليهم عبد الناصر قط ولم يدعه لنفسه من دونهم قط فبقي بدون إنجاز لمدة طالت أكثر مما يجب .
ثانياً : إن أسلوب التجربة والخطأ قد استمر يحكم موقف عبد الناصر في معالجته مشكلة الديموقراطية في مصر أكثر من تسع سنوات بعد قيام الثورة .
ثالثاً : إن الثورة قد اعتمدت في إدارة الدولة وإنجاز مشروعات التنمية- بدلاً من المثقفين الذين قاطعوها وقاطعتهم - على التكنوقراطيين البيروقراطيين الذين لم يلبثوا أن تحولوا إلى طبقة جديدة ، عازلة تحيط بقيادة الثورة . وهي طبقة بحكم تكوينها ومصالحها تعتبر من أعدى أعداء الديموقراطية لا في مصر وحدها ولكن في كل العالم وفي كل النظم . وسيستنفد عبد الناصرقدراً كبيراً من جهده ومن فترة حكمه في محاولات حل التناقض بين الثورة ومضامينها المتطورة وبين الطبقة البيروقراطية المعادية للثورة واتجاهها غير الديموقراطي، والتي لا تستطيع الثورة - في الوقت نفسه- الاستغناء عنها لأنها كانت البديل الوحيد المتاح بعد مقاطعة المثقفين للثورة أو مقاطعة الثورة للمثقفين على أثر أزمة مارس 1954.
ويقول كثير من الذين يؤرخون لأزمة مارس 1954 إن الديكتاتورية قد انتصرت في تلك الأزمة على الديموقراطية وإن عبد الناصر قد أصبح منذ ذلك التاريخ ديكتاتوراً صريحاً ، ولهم على ذلك شواهد عدة. فهل كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟

(6)تحرير ا لفلاحين

فذلكة فكرية :

الحديث عن غائب إلى غائبين صعب إذا صاحبه شعور قوي بالمسئولية . حينئذ لا يبرز الحديث إلا بعد أن يشق له طريقاً وعراً خلال ركام من الأسئلة التي يتصور المتحدث أنها ثائرة أو يمكن أن تثور في اذهان الذين يتحدث إليهم . ويكون عليه أن يجعل من الحديث حواراً من طرف واحد وهو أمر عسير. أو يكون عليه أن يقاوم - بصعوبة أيضاً - اغراء الهرب المريح من أسئلة يتصور أنها تحاصره وان كان لا يعرف أصحابها . والهرب هنا سهل أيضآ بالنسبة للطرفين . ما على المتحدث إلا أن يتجاهل تصوراته ويستمر في الحديث كما لو كان يتحدث إلى نفسه . وما على القارىء إلا أن يكف عن قراءة حديث لا يشعر بأنه موجه إليه ما دام يتجاهل أسئلة يثيرها في ذهنه . فتكون قطيعة سهلة ولكنها مجردة من الشعور بالمسئولية.
هناك مصدر آخر لصعوبة الحديث عن غائب إلى غائبين . ذلك هو أن لكل حديث موضوعاً ينبغي أن يلتزم حدوده . ولما كان كل موضوع ، وأي موضوع ، ذا صلة بموضوعات أخرى فإن الاستجابة إلى تداعي المعاني أو الرغبة المشروعة في أن يجيب الحديث على كل الأسئلة التي يمكن أن يثيرها الموضوع هي إستجابة مغامرة . إذ أنها تتضمن مخاطر تجاوز حدود موضوع الحديث ليصبح " دردشة" في موضوعات غير محددة وهو عقيم .
نحن لا نريد هرباً أو قطيعة أو دردشة فما العمل ؟
لا بد من الانتقاء . نواجه الأسثلة التي نكاد نوقن بأنها ، في مكان ما، قد ثارت ولا ينبغي تجاهلها لأنها وثيقة الصلة بسياق الحديث . ونعتذر عن الإجابة على الأسئلة التي قد تثور وتستحق الإجابة عليها في حديث آخر.
ولقد خطر لنا كل هذا حين انتهينا في حلقة سابقة من هذا الحديث إلى انتماء ثورة 23 يوليو وقائدها جمال عبد الناصر إلى الخط الوطني الثوري الذي بدأه أحمد عرابي . وتجسمت لنا مصاعب الحديث إلى غائبين حين ركزنا تركيزاً قوياً على هذا الانتماء السياسي ورجونا القراء ألا ينسوه . حينئذ خطر لنا أنه في مكان ما قد ثار سؤال عاطف أو عاصف أو ممتعض يمكن أن تكون صيغته : " لماذا هذا التركيز على الانتماء السياسي لثورة 23 يوليو وعبد الناصر؟ وما قيمته العلمية "؟ ان المقياس العلمي للانتماء هو الانتماء الطبقي ، وليس الموقف السياسي إلا انعكاساً له ، ولقد كان أجدر وأجدى أن يقول لنا صاحب الحديث إلى أية طبقة كان ينتمي الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر لنستطيع - بدون عناء - أن نفهم ونفسر ونبرر مواقفهم السياسية من كافة القضايا بما فيها قضية الديموقراطية ؟
سؤال جاد لا مهرب منه.
ومع ذلك فإن الإجابة " الوافية " عليه تخرج بنا، حتماً ، من نطاق موضوع حديثنا إلى مجالات فكرية مجردة تكاد تكون غير محدودة . ذلك أن الطريق إلى الإجابة عليه يعبر بسؤال قبله يمكن أن تكون صيغته: ما هي العلاقة بين الموقع الاجتماعي والموقع السياسي لكل إنسان على حدة ؟.... وهذا السؤال يسبقه سؤال: ما هي العلاقة بين الموضوع والذات؟.. و هذا يسبقه سؤال : ما هي العلاقة بين العيني والمجرد ؟ .. وهذا يسبقه سؤال : ما هي العلاقة بين المادة والفكر؟..
و نكاد نخرج من الموضوع ومع ذلك لا مهرب .
فنقول بإختصار.. ونترك التفاصيل في المراجع لمن يريد.. ان مقولات كثيرة مثل : " أن حركة الفكر ليست إلا انعكاساً لحركة المادة منقولة إلى دماغ الإنسان " (ماركس) أو : " ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بالعكس فإن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم " (ماركس) .. قد أصبحت حتى عند أصحابها مقولات تقليدية.
ولقد كان من شأن التسليم بصحة تلك المقولات أن يكون الموقف السياسي انعكاساً للموقع الطبقي حتماً .. ولكن - كما قلنا - أصبحت مقولات تقليدية . فمن قبل أعتذر أحد صاحبي هذه المقولات بقوله : " لقد كنا، ماركس وأنا ، مسئولين جزئياً عن تركيز الشباب على الجانب الاقتصادي تركيزاً أكثر مما يستحقه . لقد كان لا بد لنا ، نحن من أن نركز على المبدأ الأساسي في مواجهة معارضينا الذين ينكرونه . ولم يكن يتوافر لنا دائماً ، الوقت والمكان والفرصة المناسبة لنسمح للعناصر الأخرى بالتدخل في التأثير المتبادل بالقدر الذي تستحقه " (انجلز) . ومن بعده قال واحد من كبار ثوار التاريخ يصحح من واقع التجربة نظريته: " ان عقل الإنسان لا يعكس العالم الواقعي فحسب بل يخلقه " . والان يقولون " إن المعرفة ليست مجرد انعكاس للموضوع المدرك وإنما هي أيضاً خلق جديد وتغيير لحالته بهدف تلبية احتياجات الإنسان. إن نظرية الأستجابة السلبية والمدخل الانعكاسي السلبي تجاه المعرفة لا يروح لها إلا العوام وبعض الفلاسفة الذين يتصورون أنفسهم ماديين دياكتيكيين . ذلك أن هذه النظرية تتصور الذات العارفة ، لا على أنها فاعلة وخلاقة، ولا على أنها هادفة الى تحقيق إرادتها ورغبتها ، ولا على أن منشئها المجتمع بل ان هذه النظرية تلحق هذه الصفات كلها بموضوع المعرفة ومن ثم فإن الذات العارفة تنحول من كونها محددة ومحركة لعملية المعرفة إلى كونها محددة من قبل الموضوع المعروف . وهكذا تتحول العلاقة المعرفية إلى علاقة شيئية، علاقة بين أشياء (دبوفاسكوي وشيلين) .
وخلاصة هذا أن العيني لم يعد وحده الذي يحدد المجرد، وان الموضوعي لم يعد هو وحده الذي يحدد الذاتي وان... الانتماء الطبقي لم يعد هو وحده الذي يحدد الموقف السياسي . وبالتالي فاننا لا نستطيع أن نعرف أو نفهم أو نفسر الموقف السياسي لعبد الناصر- مثلأ- على ضوء موقعه الطبقي وحده . وذلك لأن " بين نقطة البداية ونقطة النهاية ثمة عمليات بيولوجية ونفسية و اجتماعية " كما يقولون الآن ( النيكف) وهي أقوال تصوغ حصيلة الممارسة. تلك الممارسة التي حملت أبناء " البورجوازية " من أمثال ماركس ( دكتور في الفلسفة) وانجلز ( رجل أعمال ) ولينين ( دكتور في القانون) وماو وتسي تونغ (أديب وشاعر رومانتيكي) .. إلى آخرهم ، من مواقعهم الطبقية إلى مراكز القيادة السياسية للطبقة العاملة .. وهي الممارسة التي حملت أحمد عرابي ( فلاح مجند) ، ومصطفى كامل (محام) ومحمد فريد ( اقطاعي أنفق كل ثروته على الحركة الوطنية ومات معدماً ).. من مواقعهم الطبقية المختلفة إلى موقف سياسي واحد في مركز القيادة للخط الثوري الوطني في مصر .
لذلك نترك الانتماء الطبقي لمن يريد أن يبحث عن انعكاسه في الموقف السياسي لعبد الناصر ونكتفي بموقفه السياسي لأن ذلك هو الموقف الذي اختاره وتعامل منه مع مشكلة الديموقراطية في مصر وهو ما يهمنا في حدود هذا الحديث .
وقبل أن نعتذر عن الاختصار في الإجابة لأصحاب النظريات نضع أمامهم هذه الحقيقة الاجتماعية مادة يستطيعون أن " يحللوها " كما يشاؤن : ان جمال عبد الناصر ينتمي إلى قرية " بني مر " في صعيد مصر. ولكنه لم يكن فلاحاً ، و لا كان ابن فلاح ، ولا عاش مع الفلاحين ، وما كان هو أو والده أو أعمامه أطرافاً في علاقة إنتاج زراعية ، ولم تكن " بني مر " بالنسبة إلى عبد الناصر إلا قرية مثل كل قرى مصر، وقد نشأ وشب وتعلم وناضل ومات ، وهو ينتمي إلى أبناء الموظفين سكان المدن .
ومع ذلك ، أو- اذا أردتم - بالرغم من ذلك ...
فإن تحرير الفلاحين من القهر الاقتصادي والاجتماعي والسياسى الذي كانوا يعانونه كان أوضح أهداف عبد الناصر منذ أن قامت الثورة إلى أن انتقل إلى جوار ربه. كما أن أوضح جوانب مشكلة الديموقراطية في مصر، في وعي عبد الناصر، كان الجانب المتصل بالحقوق السياسية للفلاحين .. وكانت نسبة متفوقة من كل انجازات عبد الناصر موجهة بالدرجة الأولى إلى الفلاحين ... بحيث لو أردنا أن نختار عنواناً ، لثورة 23 يوليو لكان أقرب العناوين إلى حقيقتها انها ثورة تحرير الفلاحين في مصر...


الاصلاح الزراعي :

كان الهدف الأول ، الأكثر وضوحاً ، لثورة 23 يوليو هو تحرير الفلاحين . ومن أجله صدر قانون الإصلاح الزراعي يوم 9 سبتمبر 1952، أي بعد شهر ونصف من قيام الثورة . ولقد كان تحديد الملكية الزراعية هو التحدي الظاهر الذي واجهت به الثورة الأحزاب فرفضته . قال عبد الناصر في المؤتمر الشعبي الذي انعقد في الأسكندرية يوم 26 يوليو 1955 !؟ " منذ أول يوم من أيام الثورة قلنا لهم إذا أردتم فعلأ أن تحققوا الحرية التي طالما طالبتم بها وناديتم بها لهذا الشعب ، هذا الشعب الطيب الذي خدعتموه تحت إسم الحرية.. فلتوافقوا ولتعلنوا معنا القضاء على الاقطاع ولتعلنوا تحديد الملكية ".
ومنذ أن صدر قانون الإصلاح الزراعي لم تتوقف دراسته ونقده وتعديله والإضافة إليه .
ولقد أنصبت أغلب الدراسات على جانبه الاقتصادي وبلغ التحيز ضده إلى حد اسناد كثير من متاعب الإنتاج الزراعي إليه . وبلغ التحيز اليه حد القول بأنه قانون اشتراكي . والواقع كما نراه أن قانون الإصلاح الزراعي لا يستمد أهميته من علاقته بالاقتصاد لأنه لم يصدر من أجل زيادة الإنتاج . ولا من علاقته بالنظام الاشتراكي لأنه لم يغير من علاقات الإنتاج . و لكنه - إذا صح رأينا- القانون الديموقراطي الأول في تاريخ مصر الحديث . ذلك لأنه يتضمن محاولة لحل مشكلة الديموقراطية بالنسبة لأغلبية الشعب من الفلاحين . ولقد اتجهت تلك المحاولة اتجاهين : اتجاهاً إلى الإقطاعيين بالحد من قوتهم وكسر شوكتهم ، وتحطيم ما تراكم لهم من هيبة طاغية في الريف . والاتجاه الثاني إلى الفلاحين لخلخلة القيود التي تكبلهم وتشجيعهم على " التمرد " أو الفكاك من التبعية وتدريبهم على الجرأة على تحدي استغلال الملاك وهيبة الاقطاعيين .
و لقد كان الاتجاه الأول محدود الأثر اقتصادياً و ديموقراطياً ، فقصارى ما أصاب الاقطاعيين أن نزل بالحد الأقصى لملكية الفرد منهم إلى مائتي فدان . فلما احتالوا على الحد فوزعوا ما يملكون على أفراد أسرهم لكل منهم مائتا فدان صدر القانون رقم 34 لسنة 1958 أي بعد خمس سنوات كاملة من قيام الثورة يقضي بألا يزيد ما يمتلكه الشخص هو وزوجته وأولاده القصر عن ثلاثمائة فدان . ولقد كان أثر هذا التحديد تافهاً لأسباب كثيرة .
منها انه ، بالنسبة إلى ضيق المساحة المزروعة في مصر وكثافة السكان في الريف وتدني مستوى المعيشة، كانت الثلاثمائة فدان أو المائتان أوحتى المائة كافية وأكثر من كافية للإبقاء على سيطرة الملاك على الأغلبية الساحقة من سكان الريف المعدمين أو شبه المعدمين . لأن التبعية تتوقف على العلاقة النسبية بين طرفيها، ومهما كان من أثر تحديد الملكية بالنسبة الى الملاك فإنه لم يغير شيئاً من موقع التابعين .
ومنها أن السيطرة الاقتصادية كانت قد تحولت الى سيطرة اجتماعية ونفسية وإخلاقية أيضا ، كانت تلك السيطرة قد أصبحت مقبولة اجتماعياً ونفسيا وأخلاقيا وتحولت إلى " قيم وأخلاق وسلوك القرية " كما ذكرنا من قبل . ولم يكن من شأن تحديد الملكية على الوجه الذي جاء به القانون أضعاف هذه السيطرة القبلية أو غيرها من القيم القروية البالية. فبالرغم من أن الفلاحين قد وقفوا " يتفرجون " على مملكة الاقطاعيين تنتهك وهيبتهم تجرح وقصورهم تقتحم وفائض أطيانهم يسترد ورأوا الطغاة يشكون " ويتمسكنون " ، إلا أن الأمر سرعان ما عاد ببعضهم إلى ما كان عليه وبلغ الأمر حد أن بعض الفلاحين لم يصدقوا أنهم قد أصبحوا ملاكاً لأراضي سادتهم فكانوا يحملون إليهم المحاصيل خفية .
ومنها ، أخيراً ، وربما أهمها، أن تحديد الملكية لم يمس إلا شريحة ضئيلة من الملاك لا تزيد عن ألفي شخص هم أصحاب الملكيات الواسعة . أولئك كانوا في الواقع قد تحولوا من إقطاعيين إلى رأسماليين زراعيين ، وأصبحت ممتلكاتهم مزارع متقدمة الأدوات مخصصة لانتاج البضائع الزراعية من أجل المضاربة في السوق . وكان جلّهم قد قطعوا علاقتهم بالقرى وأقاموا في المدن وتولى وكلاؤهم و عملاؤهم مهمة إدارة تلك الممتلكات وممارسة الجانب القهري في علاقتهم المباشرة مع الفلاحين . ولكن القانون لم يمس شريحة أعرض من الملاك يبلغ عددها 64822 وهم الذين يملكون ما بين خمسة أفدنة ومائتي فدان ويواجهون- في ساحة الصراع الاجتماعي في الريف - ثلاثة ملايين ونصف مليون تقريباً - ممن يملكون أقل من خمسة أفدنة والمعدمين وأسرهم .
هذه الشريحة تعتبر موضوعياً أعدى أعداء تحرر الفلاحين لأنهم هم الذين يقومون بدور الوسطاء والمقاولين بين الاقطاعيين والفلاحين . وهم الذين يضاربون على الأرض بيعاً وشراء ورهناً . وهم المرابون الذين يتخذون من الأقراض بالربا وسيلة ناجحة للاستحواذ على مزيد من الأرض . وهم الذين يضاربون على حاجة الفلاح إلى الأرض فيرفعون الإيجار ويشتركون بالمزارعة في المحصول ويقدمون الخدمات الزراعية إلى الفلاحين بأثمان باهظة ثم يطردون المستأجرين ليعيدوا تأجير أرضهم وأرض الإقطاعيين للحصول على مزيد من عرق الفلاحين . وهم الأقرب إلى السلطات المحلية فهم الذين يستعدونها ويرشونها و يستخدمونها في قهر الفلاحين . وأخيراً هم وسطاء الانتخابات الذين كانوا يبيعون الاصوات صفقات أو صفقة واحدة في كل قرية...
هذه الشريحة المفسدة لم تتاثر بتحديد الملكية، بالعكس ، لقد كانوا هم أنفسهم " أعياناً " من الدرجة الثانية فأصبحوا " أعياناً " من الدرجة الأولى ، كانوا وسطاء للسادة فاحتلوا المواقع التي خلت وأصبحوا هم السادة ولم يكن ينقصهم التدريب على قهر الفلاحين وإذلالهم .. وسنرى فيما بعد كيف أفسدت هذه الشريحة كل ما كان مأمولاً من قانون الاصلاح الزراعي إقتصادياً وديموقراطياً .
هذا عن الاتجاه الأول : تحديد الملكية.

الوجه الديموقراطي:

الاتجاه الثاني، الذي لا توليه الدراسات اهتماماً كبيراً ، كان أكثر أثراً في حل مشكلة الديموقراطية في ريف مصر. ذلك لأن القانون قد أنصب فيه على علاقة الفلاحين بالملاك عموماً سواء كانوا اقطاعيين أو غير اقطاعيين . وحاول أن يحررهم مما يخشاه الفلاح خشية الموت ونعني به فقدان الأرض التي يزرعها . فجاء القانون وحرم تأجير الأرض إلا لمن يزرعها . وبذلك قضى على طائفة الوسطاء الذين كانوا يستأجرون الأرض الزراعية ليعيدوا تأجيرها من الباطن لمن يزرعها مستفيدين بفارق الأسعار التي يقبلونها أو يفرضونها. ثم حدد القيمة الإيجارية بسبعة أمثال الضريبة الأصلية المروبطة عليها . مع ابقاء عبء الضريبة على المالك . وبذلك حرم المضاربة على الانتفاع بالأرض واستغلال حاجة الفلاحين لفرض إيجارات باهظة وعطل قانون المنافسة الحرة بين الفلاحين من أجل الحصول على الأرض، تلك المنافسة التي كانت تزيد من أعبائهم المالية وتزيد من تبعيتهم للملاك أيضاً . ثم أوجب القانون أن يكون عقد الإيجار ثابتاً بالكتابة حتى يستطيع أن " يضبط " المخالفات ويوقع عليها العقوبة وحتى يجرد الملاك من المقدرة على المقدرة على إنكار علاقة التأجير تمهيداً لطرد الفلاحين . ثم أوجب أن تكون مدة الإيجار ثلاث سنوات على الأقل حتى يطمئن الفلاحون إلى استقرار بقاثهم في الأرض لمدة معقولة . وقد امتدت العقوبة بقوانين متتالية حتى عام 1961 . ثم إن القانون قد حرم إخراج المستأجرين من الأرض وكانت تلك ضربة قاضية لقيد الخوف من فقدان الأرض ذلك الخوف الذي استعبد الفلاحين دهراً .
بالإضافة إلى هذا حاول القانون الزج بمجموع الفلاحين زجاً إلى مواقف جماعية إيجابية يواجهون بها احتياجاتهم بدلاً من علاقة الاتكال والتواكل التي كانوا قد اعتادوا عليها سنين طويلة . فأنشأ الجمعيات التعاونية الزرأعية واشترط أن تكون عضويتها لمن تقل ملكيتهم عن خمسة أفدنة وجعل من مهامها الحصول لصالح أعضائها على السلف الزراعية ومدهم بالبذور والسماد والماشية والآلات الزراعية وتنظيم زراعة الأرض واستغلالها وبيع المحصولات الرئيسية لحساب أعضائها والقيام بجميع الخدمات الزراعية الأخرى التي تتطلبها حاجات الأعضاء وكذلك القيام بمختلف الخدمات الاجتماعية.



مثال من الهند:

هذا هو الجانب الديموقراطي من قانون الاصلاح الزراعي وبه نستطيع أن نقول إنه كان قانون تحرير الفلاحين من القهر الاقتصادي الذي مارسه الملاك وتحطيم علاقة التبعية التي تربطهم بسادتهم الأقدمين ولقد نعرف ، وسنعرف فيما بعد ، إلى أي مدى استفاد الفلاحون - فعلاً - من هذا القانون الديموقراطي . يكفينا الآن أن نسجل أنه حيث كان جانب من مشكلة الديموقراطية في مصر قبل 1952 يتمثل في سيطرة الاقطاعيين وكبار الملاك الزراعيين على الفلاحين فإن الثورة ، منذ بدايتها ، قد اتجهت إلى الحد من سيطرة الاقطاعيين وكبار الملاك . وحيث كان جانب من مشكلة الديموقراطية يتمثل في استسلام الفلاحين للقهر وقبول المذلة والعبودية وتبريرها وتحويلها الى قيم قروية قبلية منحطة فإن الثورة اتجهت منذ بدايتها إلى محاولة تحصينهم ضد الخوف من فقدان الارض وتأمين استمرارهم في العمل الزراعي بدون مضاربة فأتيحت لهم ، لأول مرة ، فرصة ممارسة الديموقراطية … كيف ؟
هل لمجرد أن أصبح الفلاحون باقين في الأرض يزرعونها قد أصبحوا ديموقراطيين ؟
لا .
إنما تحقق لهم شرط التحرر من سيطرة الملاك فأتيحت لهم - في هذه الحدود- فرصة الممارسة. لم يعودوا مضطرين - اقتصادياً - إلى بيع أصواتهم في مقابل البقاء في الأرض أو الحصول على الخدمات الزراعية التي كان الملاك يحتكرون توريدها إليهم . وهذا أكثر ديموقراطية من كل ما سطره فلاسفة الليبرالية منذ مونتسكيو حتى الآن .
لقد قيل في نقد قانون الإصلاح الزراعي أنه أفسد أخلاق الفلاحين إذ علمهم الجرأة والتطاول والفظاظة و" قلة الأدب " مع أسياد البلاد، وأفسد حياتهم إذ حرمهم من الكنز الذي لا يفنى (القناعة) وفتح عيونهم فشعروا أكثر من أي وقت مضى بمدى ما يعانونه من حرمان ، وعلمهم التطلع والطموح فلم يعد يرضيهم شيء ولا حتى قانون الإصلاح الزراعي . فمن وزعت عليهم الأرض المستردة لم يدفعوا ثمنها، ومن بقوا مستأجرين لم يسددوا الإيجار في مواعيده ، وأصبح العمال الزراعيون يعملون بالساعات ويحددون الأجور. وأصبح الشغل الشاغل للفلاحين عقد المقارنات بين ما لديهم وما لدى الآخرين فما أن تسأل فلاحاً شيئاً أو تلومه على شيء حتى يصعر خده ويقول " بجلافة "... أشمعنى فلان ...
ان كان هذا قد حدث فالحمد لله . لتمد نجحت الثورة - إذن - وتحرر الفلاحون . لأن هذا هو على وجه التحديد ما كان الفلاحون في حاجة إليه فعلاً لتحل مشكلة الديوقراطية في مصر. صحيح أنه شيء تافه بالنسبة إلى سكان المدن ، و هو لا يستحق الالتفات عند جماعة المثقفين ، وهو شيء مقزز عند السادة ومع ذلك فهو هو الذي كان يحتاجه الفلاحون فعلياً وواقعياً لحل مشكلة الديموقراطية بالنسبة إليهم . والأمور نسبية حتى الديموقراطية. ونحن ننسب أمور الديموقراطية إلى الأغلبية. ولا بأس في أن نضرب مثلأ ولو لتخفيف حدة الحديث .
حين أراد المشرعون في الهند إصدار قانون العقوبات (القانون الجزائي) استغرق عملهم أربع سنوات. استنفد القانون كله سنتين واستنفدت المواد الخاصة بالدفاع الشرعي - وحدها- سنتين . ذلك لأن الدفاع الشرعي هو تلك الحالة التي يباح فيها للأفراد أن يستعملوا القوة دفاعآ عن انفسهم أو أموالهم . وقالت اللجنة التي وضعت القانون ، في تقريرها ، أن صعوبة تنظم الدفاع الشرعي في الهند لم يكن راجعاً إلى ذلك الاتجاه التقليدي في الدول الأوروبية إلى تضييق الحدود التي يباح فيها للأفراد استعمال القوة دفاعاً عن أنفسهم بل العكس تماماً : كيف يمكن تشجيع الأفراد في الهند على استعمال القوة دفاعاً عن أنفسهم وأموالهم. إذ كانت سلبية الفرد الهندي ، نتيجة عوامل تاريخية فكرية وروحية ونتيجة الاستبداد الطويل به، أكبر مشجع للصوص وقطاع الطرق على الاعتداء .
ولقد كانت مشكلة الديموقراطية في ريف مصر تتلخص في كيف يمكن اقناع الفلاحين " بالمساواة " بينهم وبين الاقطاعيين ، وكيف يمكن تشجيعهم على الاستقلال بإرادتهم عن إرادة المسيطرين عليهم اقتصادياً فاجتماعياً فسياسياً ؟ وكان قانون الاصلاح الزراعي هو الإجابة التي قدمتها الثورة على هذا السؤال .

الجديد.. هو الحرية:

حين أصدرت الثورة قانون الإصلاح الزراعي لم يكن مطلب تحديد الملكية الزراعية جديداً على ساحة الحياة السياسية في مصر . بالعكس . لقد وصلت الثورة في قانونها الأول إلى أقل بكثير مما كان يطالب به غيرها من قبل .
ففي يوم 25 يونيو 1945، قدم السيد محمد خطاب ، عضو مجلس الشيوخ ، مشروعاً بقانون يقضي بأن يكون الحد الأقصى للملكية الزراعية خمسين فداناً . ولقد قبلته لجنة الشئون الاجتماعية والعمل من حيث المبدأ ورفعت الحد إلى مائة فدان . وهو الحد الذي كان يطالب به الحزب الشيوعي المصري (السري) في ذلك الوقت . ولكن المشروع واجه معارضة قوية عند المناقشة ووصف - فعلاً - بأنه مشروع شيوعي. المهم أنه رفض في النهاية . وقد عاد صاحبه إلى عرضه مرة أخرى في المؤتمر الزراعي الثالث عام 1949 فأصدر المؤتمر توصية بوضع حد أعلى للملكية الزراعية دون أن يحددها . ولقد كان الشيوعيون والإخوان المسلمون وحزب مصر الفتاة - قبل الثورة - يساندون ، الدعوة إلى تحديد الملكية الزراعية.
ومع ذلك فإن هناك فارقاً أساسياً بين دعوات الإصلاح الزراعي قبل الثورة و الإصلاح الزراعي بعدها. كانت بواعث الدعوات قبل الثورة ومبرراتها وأغراضها اقتصادية بحتة . ترشيد الانتاج الزراعي بالحد من الملكيات الكبيرة وتشجيع الملكيات المتوسطة باعتبارها النموذج الامثل للوصول بالانتاج الزراعي إلى أعلى مستوى . لهذا كانت المبررات التي استند إليها مجلس الشيوخ في رفض مشروع محمد خطاب دفاعاً عن الملكيات الكبيرة وفائدتها الاقتصادية وعن قدرة المالك الكبير على تحسين الانتاج وزيادته . ولم يحظ الفلاحون في كل تلك الدعوات والمشروعات باكثر مما تحظى به- أدوات الانتاج المادية فهم، باعتبارهم أدوات انتاج بشرية " ، محتاجون إلى حد أدنى من العناية الصحية والتعليم ليكونوا أكثر مقدرة على " الخدمة " في المزارع . ولم يحدث أن تضمنت الدعوة إلى تحديد الملكية، قبل الثورة، إعادة لصياغة العلاقات بين الملاك الزراعيين على أي وجه يمس سيطرة الملاك على الفلاحين أو يحد من حريتهم المطلقة في تحديد الأجور والإيجار وطرد الزارع المستأجر أو العامل الزراعي في أي وقت . كانت كلها دعوات ومشروعات وملاك الأراضي أنفسهم لاصلاح " بيوتهم "
عكس هذا تماماً ما جاء في قانون الإصلاح الزراعي الذي أصدرته الثورة كما أوضحنا من قبل . فقد غير تغييراً كاملاً وجذرياً العلاقة بين المالك والمستأجر وبينه وبين العامل الزراعي . فهل كان ذلك مقصوداً لذاته أم جاء بالتبعية لتحديد الملكية أم كان مصادفة ؟ هل كانت الثورة معنية- بالدرجة الأولى - بالإصلاح الزراعي أو بالإصلاح الديموقراطي ؟
نسمع الجواب من عبد الناصر.

ماذا كان يريد عبد الناصر:

لم يركزعبد الناصر قط على المبرر الاقتصادي للاصلاح الزراعي . ولكنه برره دائماً تبريراً تحررياً ديموقراطيا. وهو ما يعني أن الإصلاح الزراعي كان مرتبطاً في وعيه بمشكلة الديموقراطية في مصر. وان مشكلة الديموقراطية أو حل مشكلة الديموقراطية في مصر كان - في ذهنه- الهدف الأساسي من الإصلاح الزراعي .
قال يوم 13 أبريل 1954: " وأنتم أدرى الناس بالاقطاع وكيف كان يؤثر في الحياة السياسية. ان طلبنا الرئيسي لم يكن اقتصادياً وإنما تحرير الفلاح من سيطرة السيد ".
وقال يوم 19 أبريل 1954 ضمن خطبة ألقيت في وفود الفلاحين : " الحقيقة يا أخواني أننا إذا تكلمنا عن تحديد الملكية وإذا تكلمنا عن الإصلاح الزراعي وإذا تكلمنا عن توزيع الأرض وعن تمليك الأرض ، إذا تكلمنا عن كل هذا، آ فيجب أن نفهم ما هو المعنى الأساسي لهذا التمليك وما مغزاه .. أن أهم شيء في تحديد الملكية ، هذا التحديد الذي خلصنا من الاقطاع الذي استمر سنين طويلة، انه يعبر عن معنيين أساسيين : الأول هو الحرية السياسية والثاني هو التخلص من الاستبداد السياسي . فقد كانت الأرض التي يملكها الاقطاعي والتي يعمل فيها الفلاح هي العامل الأول الذي كان يستغل دائماً في التوجيه السياسي . العامل الذي كان يستغل دائماً في التحكم في مصير الفلاح وفي مورد رزقه ولا يترك له فرصة للتخلص من الاتجاه السياسي الذي كان يدفعه إليه صاحب الاقطاع . وكانت النتيجة هي تحكم الاقطاع فى الحكم وفي سياسة الدولة ولذلك استمر أصحاب الاقطاع طوال السنين الماضية يتحكمون في مصيرنا ".
وقال يوم 2 مايو 1954 في قرية باتاج بمناسبة حفل توزيع الأراضي المستردة على الفلاحين : " فلما قامت الثورة وجدت أن الفلاح الذي يعتبر الدعامة الأولى في هذا البلد يجب أن يتحرر، وانه لن ينال هذه الحرية بالكلام وحده ولكن ينالها بالعمل . ولهذا بدأنا بتحديد الملكية الزراعية لنحرر الفلاح من الاستعباد ونحرره من الاستغلال فإن الهدف الأول لهذه الثورة كان مركزاً في كلمة واحدة هي " الحرية ".
وقال في يوم 3 يوليو 1955 في حفل توزيع الأراضي المستردة على الفلاحين في نجع حمادي : " ولكن تحرير الأرض يحرر الفرد من كل أنواع الذل والاستعباد والاقطاع . كيف يتحرر هذا الفلاح الذي يعمل عند الاقطاعي ويشعر أنه تحت رحمته يستطيع أن يخرجه متى شاء هو وأولاده . ومعنى هذا أنه لن يطمئن على حريته ولن تتحقق حرية الفلاح إذا كان مهدداً في رزقه وفي حياته. وإذا كانت الحرية كلاماً وخداعاً فاننا لا نوافق على الخداع لأننا نؤمن أن حرية الوطن لا يمكن أن تتم إذا لم يتحرر الفرد. وكيف يتحرر الوطن والغالبية العظمى لم تتحرر؟ " .
هذه نماذج مما قاله عبد الناصر معبراً عن معنى واحد هو ان الحرية والديموقراطية لا يمكن أن تتحققا بالنسبة إلى الفلاحين ، أغلبية شعب مصر، إلا بعد تحريرهم من سيطرة الاقطاعيين والتبعية لملاك الأرض. هذا المعنى الذي يربط بين الواقع الاجتماعي والاقتصادي وبين الحرية والديموقراطية كان يتضمن- كمالا شك - نلاحظ - بدور المفهوم الاشتراكي للديموقراطية التي ستنبت ثم تنمو ثم تثمر " الميثاق " بعد عشر سنوات .

السؤال.. مرة أخرى :
نعيد السؤال الذي طرحناه في نهاية الحلقة السابقة من هذا الحديث . هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟؟
يجيب الفلاحون في مصر.... لا.
فهل ثمة جواب آخر؟

(7) اسطورة المستبد العادل

مسافة... من فضلك :

في 11 يونيو 1940 طار ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وقائدها في الحرب الاوروبية الثانية (1939- 1945) الى مدينة " تور " في فرنسا لمحاولة اقناع القادة الفرنسيين بالاستمرار في الحرب ضد الغزو الالماني . لم تكن باريس قد سقطت بعد ( سقطت في 14 يونيو 1940) ولكن القادة الفرنسيين كانوا قد استسلموا هم فقرروا ان تستسلم فرنسا فلما تجد زيارة تشرشل شيئاً .
فلما ان هم بدخول طائرة العودة دخل معه جنرال فرنسي شاب . كان هو الجنرال ديجول الذي اختار وحده ان يقاوم الغزو الالماني وان يحرر فرنسا . كانت كل المعطيات الموضوعية ضد اختياره . قوة العدو كاسحة. وفرنسا مسحوقة . وبطل فرنسا العتيد " الماريشال بيتان "، الذي كان يحظى من اجلال الفرنسيين بما يقارب التقديس هو رئيس الحكومة التي قررت الاستسلام . وانجلترا الحليف الوحيد لفرنسا كانت تقف وحيدة في جزيرتها تنتظر ما كان يبدو مصيراً محتوماً بالسقوط . وكان شارل ديجول وحيداً أيضا . لم يكن وراءه حزب ، ولا جماهير ولا جيوش ولا أموال ولا حتى أعوان . كان كل ما يملكه " ايمانا صوفيا مطلقا " بانه قادر على تحرير وطنه وانه يجب ان يحرره . ولقد بدأت به " فرنسا الحرة "، او فلنقل ان قد بدأت " فيه " فرنسا الحرة فلم يبقى وحيدا . انحاز اليه الاحرار في فرنسا وفيما وراء البحار بدون تردد وبدون مناقشة ، كما لو كانوا ينحازون الى فرنسا ذاتها . ولقد كان ديجول مؤمنا ايمانا صوفيا مطلقا بانه رمز فرنسا وتجسيدها العيني في انسان . وكان أحرار فرنسا يقبلون منه هذا الايمان ويؤمنون به ويعترفون له اعترافا غير قابل للمناقشة بانه رمز فرنسا وتجسيدها البشري . حتى لو كانوا ينقدون بعض ما يفعل .
لم تلبث فرنسا الحرة ان أصبحت تملك الجيوش وتشارك في الحرب وفي تحرير فرنسا . وبعد تحرير باريس يوم 25 أغسطس 1944 احتشد مئات الالوف من الفرنسيين على جانبي شارع الشانزليزيه في باريس وهم يهتفون لمسيرة النصر، ويكاد بعضهم ان يجن انفعالا وهم يرقبون قائد فرنسا العظيم شارل ديجول يتقدم المسيرة مترجلا متجها الى قوس النصر يتبعه كل أبطال تحرير فرنسا . وخطر لاحد اولئك الابطال ان يقترب حتى يوازي القائد . فلم تحجب انفعالات يوم تحرير باريس دلالة هذا الاقتراب من فطنة ديجول . فالتفت الى رفيقه في النضال قائلا " مسافة.. من فضلك " .. معبراً بذلك عن حرصه على حقيقة لا ينبغي ان يحجبها التواضع او المجاملة او الحرج . هي ان من حق الشعوب ان تتعرف على أبطالها بدون لبس او غموض وان تبقى بين القائد التاريخى ورفاقه مسافة مميزة للقيادة حتى لا يختلط الامر على الشعوب .. ولعل ديجول كان يعرف ان الأمة الواحدة ذات التاريخ الواحد و المصير الواحد لا يمثلها الا رمز واحد كما لا تصلح لها الا دولة قومية واحدة ، وبالتالي حرص على الا تختلط الرموز او تتعدد في أذهان شعب الامة الفرنسية يوم تحريرها.
أياً ما كان الامر فتلك عناصر نفسية وذاتية تدخل في بناء التاريخ وتصعد في بعض مراحله الى المرتبة الاولى من تكويناته اثرا بحيث ان جهلها او تجاهلها قد يؤدي الى عدم المقدرة على فهم التاريخ او تفسيره . ولم تزل في بولندا شعبة من المدرسة الماركسية تحاول تفسير كفاح الطبقة العاملة على أسس من علم النفس .. ولم يزل علم السياسة يعترف بظاهرة " البطل التاريخي " ..
المهم ان هذه المسافة " التاريخية " بين القائد ورفاقه كانت محفوظة في علاقة عبد الناصر بأعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952.. والضباط الاحرار، بحيث لم يحتج عبد الناصر طوال حياته الى ان يقول لاحد: مسافة.. من فضلك . فلقد كان الواقع التاريخي والممارسة قد حددا تلك المسافة على وجه لا يقبل تجاوزها... وكل من حاول تجاوزها سقط .
فمن حيث الواقع التاريخي كان تنظيم الضباط الاحرار هو تنظيم جمال عبد الناصر . لقد ذكرنا من قبل ان اول تشكيل للضباط الاحرار قد بدأ (1940) كمحاولة لمد التنظيم الوطني السري الذي كان يقوده عبد العزيز علي الى صفوف القوات المسلحة .. ولكن ابتداء من عام 1942 أصبح جمال عبد الناصر- الذي عاد لتوه من الخدمة في السودان - هو القائد المنظم للضباط الاحرار . ولم يكن أي واحد غير عبد الناصر والى ان توفي يعرف العدد الحقيقي لاعضاء التنظيم ولا كل أسماء أعضائه . ثم ان عبد الناصر هو الذي طور الشكل التنظيمي للضباط الاحرار فأنشأ لهم قيادة جماعية تحت اسم " الهيئة التأسيسية للضباط الاحرار " في عام 1950 أي بعد ثماني سنوات كاملة كان فيها هو المؤسس والمجند و المنظم والقائد . وكان كل ذلك معترفا به ولم يناقش فيه أحد . ولقد بلغ الاعتراف بالوضع التاريخي المتميز لعبد الناصر انه في سنة 1951، أي قبل الثورة بعام واحد رأى ان يضم الى الهيئة التأسيسية (القيادة) ضابطا لم يكن من قبل عضوا في تنظيم الضباط الاحرار . فقبل عضوا في القيادة مباشرة دون ان يمر على مستويات التنظيم قبولا لرأي عبد الناصر. كان ذلك الضابط هو أنور السادات الذي سيصبح خليفة لعبد الناصر في رئاسة الجمهورية بعد ذلك بعشرين عاما..
ومما يذكر ويشكر للرئيس أنور السادات انه كان واحداً من الذين لم يكفوا في أي وقت طوال حياة عبد الناصر عن الاعتراف بالمسافة التاريخية التي كانت بين قائد الثورة وأعضاء مجلس قيادتها . و لقد عبر سيادته عن هذا الاعتراف بكل أدوات التعبير وأقواها دلا لة . ولا يمكن ان ينسى الشعب لسيادته انه يوم أن ألقى كلمته التاريخية أمام مجلس الشعب وهو يتلقى قرار ترشيحه خلفا لعبد الناصر، بعد ان أنهى كلمته وهم بالخروج من القاعة ومر أمام تمثال عبد الناصر ، استدار وركع امام تمثال عبد الناصر تحية واجلالا لقائد الثورة العظيم . ولم يكن ذلك الموقف جديدا على الرئيس السادات .
يقول موسى صبري في كتابه "وثائق 15 مايو " (1977) وهو كتاب لا يمكن ان يتهم بانه " مع " عبد الناصر ولا بأنه " ضد " أنور السادات " فيقول :
" أعطى أنور السادات صوته في مجلس الثورة مع عبد الناصر دائما.. وأعلن انه يؤيد كل قرار يصدره عبد الناصر حتى لو كان غائبا . وضع السادات صوته في مجلس الثورة في جيب عبد الناصر تعبيراً عن الثقة المطلقة . واقتناعا كاملا بأن عبد الناصر رجل عميق التحليل للامور ، صائب الرأي في الوصول الى قراره . لا يتعجل ولا يصدر القرار الا بعد دراسة كاملة لكل جوانبه . وثبت هذا في اجتماعات مجلس الثورة. وعندما صدر قرار مجلس قيادة الثورة بعودة محمد نجيب كان أنور السادات يستمع الى القرار من الراديو ولم يكن حاضرا للاجتماع واستمع الى اسمه وفي ترتيب أقدميته من مصدري القرار… " .
ان هذه الفقرة لا تكتفي بالاعتراف بالمسافة التاريخية التي كانت بين قائد الثورة وأعضاء مجلس القيادة ، بل تضيف ان تلك المسافة كانت من الاتساع بحيث كاد القائد ان يكون متفردا بالقيادة وكاد الاعضاء ان يتلاشوا لدرجة ان أكثر الاعضاء خبرة بالعمل السياسي قد وضع صوته في جيب عبد الناصر، سواء أحضر الاجتماعات أم لم يحضر.. وأخيراً فان هذه الفقرة " الشهادة " تجيب على ما أصبح مادة للتشهير بعد وفاة عبد الناصر . هل كان تميز عبد الناصر " تسلطا " منه على رفاقه في مجلس قيادة الثورة هل الغى عبد الناصر وجود مجلس قيادة الثورة وفرض رأيه على أعضائه ؟.. أم ان مسافة " تاريخية " ، من الوعي والعلم والمقدرة كانت تفصل بينه وبينهم ، يعترفون بها ، فيتلقون عنه الرأي ثقة في تفوقه ؟
تقول الفقرة ان أنور السادات قد وضع صوته في جيب عبد الناصر " تعبيرا عن الثقة المطلقة واقتناعا كاملا بان عبد الناصر رجل عميق التحليل للامور " صائب الرأي في الوصول الى قرار، لا يتعجل ولا يصدر القرار الا بعد دراسة كاملة لكل جوانبه " .
هذا عن الرئيس السادات . لم يفرض عليه عبد الناصر رأيا ولكنه اقتنع اقتناعا كاملا بعبد الناصر فقبل ان يؤيده تأييداً مطلقا . فماذا عن باقي الاعضاء ؟ ..
يقول موسى صبري : " ظل عبد الناصر متمسكا بالعمل الجماعي مع مجلس الثورة حتى عام 1956. واستطاع ان يفرض نفسه وان يفرض شخصيته على أعضاء المجلس . كيف ؟ كان هو الذي يدعو الى الاجتماع . كانت الموضوعات التي يعرضها مدروسة منه من كافة جوانبها . وكانت مفاجئة للاعضاء . لأنها تعرض أثناء الاجتماع . فكان طبيعيا ، ان تصدر منهم آراء غير مدروسة . وكان طبيعيا ان تظهر لهم المرة بعد المرة سلامة رأي عبد الناصر. كان يعرف كل موضوع . وكان يبسط الحجج التي تؤيده والتي تعارضه. وكان يعبر عن الاسباب التي دعته الى التأييد او الرفض . وكان يستمع الى كل الاراء ثم يصدر القرار وأخذ وضعه تماما رئيسا لمجلس الثورة ..
وأستطيع ان أقول ان بعض أعضاء المجلس الذين كانت تربطهم صلات قديمة بعبد الناصر وكانوا يعرفون خبايا طبيعته البشرية.. كانوا يتساءلون في أحاديثهم الخاصة : هذه ليست طبيعة عبد الناصر؟.. ماذا جرى ؟ .. هل هو فعلا قد تحول.. ام ان هذا قناع يحكم ارتداؤه .
هذا الذي كان يردده بعض الاعضاء ويجب ان يكون سؤالا للباحثين والمحللين لتاريخ جمال عبد الناصر وخبايا شخصيته متعددة الجوانب .
ولكن يجب تسجيل .. ان عبد الناصر التزم بالعمل مع مجلس الثورة من 1952 الى 1956، وانه فرض شخصيته على المجلس . وانه ثبت في أكثر من قراراته انه أبعد نظرا.. ".
بالرغم من الاستعمال المتحرر لمفردات اللغة فان هذا الجانب من " الشهادة " يجيب بعضه على بعضه. ولا يحتاج الامر الى ان يطرح سؤال او تساؤل على الباحثين والمحللين عن خبايا شخصية عبد الناصر. لم يكن ثمة شيئ خبئ . لقد كان أكثر علما وأوفى درسا وأعمق تحليلا وأبعد نظرا وأصوب رأيا.. وأكثر ديموقراطية بكثير كان قبل ان ينعقد المجلس بمثابة " سكرتير " لهم يجمع عناصر الموضوع ويحضرها ويبوبها ثم يعرضها . وحين عرضها كان أستاذا يعرض عليهم كل ما يثيره الموضوع من آراء مؤيدة وآراء معارضة . ثم بعد عرضه كان يستمع الى كل الأراء بدون مقاطعة او تسفيه واستنكار او استعلاء. فاذا أبدى رأيه فهو يعرضه عرض العالم الدارس المحلل ويؤيده بحجته ولا يكتفي بل يعرض عليهم الحجج المضادة لرأيه.. ثم يصدر القرار . ليس هو الذي يصدره . فقد كانت القرارات في مجلس الثورة تصدر بالاغلبية.. بعد كل هذا ثبت لاعضاء المجلس مرة بعد المرة انه أصوبهم رأيا وأبعدهم نظرا
فنصحح بعض الالفاظ ونقول انه لم يفرض نفسه عليهم .. بل أخذ مكانا استحقه فاعترفوا له باستحقاقه. ثم نسأل " هل كان عبد الناصر ديكتاتورا في مجلس قيادة الثورة؟
لا .
وهو جواب نفي يضاف الى جواب نفي الفلاحين .
فهل ثمة جواب آخر؟
نشوف !!!

اسطورة المستبد العادل :

ما أثر تلك المسافة التاريخية بين عبد الناصر وبقية رفاقه على علاقة عبد الناصر بمشكلة الديموقراطية؟ وهل كنا نتحدث عن تلك المسافة التاريخية اعتباطا أو نفاقا او تشهيراً ؟ .. كلا .
إنما هي حقيقة ذكرناها لأنها أدت الى حقائق نذكرها .
ذكرنا من قبل انه في يوم 10 ديسمبر 1952 أعلنت الثورة سقوط دستور 1923. وفي يوم 16 يناير 1953 أعلنت حل الاحزاب القائمة وتحريم انشاء أحزاب في المستقبل ( المرسوم 37 لسنة 1953) وتحديد فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات يتم خلالها وضع دستور يحقق " الديموقراطية السليمة " ويتفق مع أهداف الثورة . وفي يوم 10 فبراير 1953 أصدرت اعلانا دستوريا ببيان نظام الحكم في فترة الانتقال . خلاصة النظام ان يتولى مجلس قيادة الثورة ، وكان يرئسه محمد نجيب ، أعمال السيادة العليا . ويتولى مجلس الوزراء ، وكان يرئسه محمد نجيب ، السلطة التشريعية . ويتولى الوزراء ، كل حسب صلاحياته السلطة التنفيذية . ويتولى مجلس مشترك من مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة ، وكان يرئسه محمد نجيب ، أعمال المتابعة والرقابة. وكان جمال عبد الناصر نائبا لمحمد نجيب في كل مناصبه .
واذا تذكرنا ان محمد نجيب الذي يحمل ألقاب قائد الثورة ورئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الوزراء ... الخ لم يكن في حقيقته الا " ديكورا " سياسيا وضع على و اجهة الثورة يوم قيامها، وبدون علمه، وانه قد انتزع ورد الى حيث موقعه الحقيقي حين خطر له - لا أدري كيف- انه جزء أصيل من بنيانها، نستطيع بسهولة ان نقول ان عبد الناصر كان هو الرئيس الفعلي للجمهورية و الرئيس الفعلي لمجلس قيادة الثورة والرئيس الفعلي لمجلس الوزراء والرئيس الفعلي للمؤتمر المشترك من مجلس قيادة الثورة و مجلس الوزراء . أي ان عبد الناصر كان الموجه الحقيقي لسلطة السيادة والسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية . ( احتفظ الاعلان الدستوري الصادر يوم 10 فبراير 1953 للسلطة القضائية باستقلالها عن كل السلطات بما فيها مجلس قيادة الثورة ) .
ثم إذا تذكرنا المسافة التاريخية التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة نستطيع بسهولة أيضاً أن نقول أنه ابتداء من أوائل عام 1953 كان الرأي الأخير في ممارسة كافة السلطات السيادية والتشريعية والتنفيذية لعبد الناصر شخصياً . هذا بدون انكار لما لم ينكره أحد من أنه كان يمارس تلك السلطات بالاشتراك مع زملائه سواء في مجلس قيادة الثورة أو في مجلس الوزراء أو في المؤتمر المشترك بينهما . عدم انكار ذلك المسلك الديموقراطي " التطوعي " في قمة أجهزة السلطة لا يحجب آثار الواقع الذي صاغه التاريخ امتيازاً بشرياً أبقى بين عبد الناصر ورفاقه مسافة أدت - واقعياً - إلى أن المرجع الفعلي في ممارسة كافة السلطات كان عبد الناصر .
انه ، إذن ، الاستبداد … وبه أصبح عبد الناصر حاكماً مستبداً .
هذا القول في حاجة الى ملحوظتين قبل ان يقبل أو يرفض أحدهما موجهة الى الجيل الجديد من الشباب العربي الذي لم يعاصر مرحلة ما قبل ثورة 23 يوليو 1952 حين كان كل شيء مختلفاً عما هو عليه الآن حتى دلالات الكلمات . والثانية عن دلالات الكلمات ذاتها حتى لا يقع أحد ضحية المعاني المجردة .
أما الملحوظة الاولى فهي انه منذ ان أطلق الامام الشيخ محمد عبده ، في مطلع القرن الحالي شعار " لا ينهض بالشرق الا مستبد عادل " لم تكن فكرة الاستبداد مقرونة- كما هي اليوم- بالقهر والتسلط . كانت توحي الى الاذهان برموز قريبة من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي ذهب به الاستبداد العادل الى حد حرمان المؤلفة قلوبهم من نصيب في الفيء تقرر لهم بنص في القرآن الكريم وإلى حد منعه الملكية الخاصة للارض السواد ( العراق) بحجة اجتهادية انها ملك للاجيال المتعاقبة من المسلمين فلا يتملك رقبتها جيل الفاتحين ولم يأخذ في شأنها بسابقة توزيع ارض الطائف . وتلك معان للاستبداد العادل بعيدة أشد البعدعن المعاني التي علمناها من الفاشية او الديكتاتورية . ونحن أبناء الجيل الذي كان واعيا مرحلة ما قبل الثورة 23 يوليو 1952 نذكر جيدا ان المستبد العادل كان على رأس فرسان أحلامنا بمستقبل أفضل لمصر. وكان محمد علي بالذات " بكل ما صاحب استبداده من- نهضة عمرانية وصناعية وزراعية وتعليمية وطموحاته العربية والدولية وانتصاراته العسكرية ، كان يبرز من حين الى حين رمزاً لقائد فرسان أحلامنا .
يقول احمد حمروش في كتابه " قصة ثورة 23 يوليو " :
... في هذه المرحلة أيضا ( يقصد مرحلة ما قبل الثورة) كانت صيحة المناداة بالحاكم المستبد العادل قد علت وترددت ووصلت إلى الذروة سواء في الخارج او في الداخل . نشر الكاتب الامريكي ستيوارت اليسوب مقالا في صحيفة شيكاغو صن تايمز يقول فيه :
" ان الحديث عن انعاش الديموقراطية في بلد كمصر يعيش فيه " أغلبية الشعب عيشة أحط من عيشة الحيوانات لغو فارغ . ان مصر لا تحتاج الى ديموقراطية بل تحتاج الى رجل فرد . الى رجل ككمال أتاتورك ليقوم بالاصلاحات الضرورية اللازمة للبلد .. لكن مشكلة مصر في كيفية العثور على الديكتاتور فليس بين رجالها من لديه المؤهلات اللازمة للديكتاتورية ".. وكتب احسان عبد القدوس مقالا بعنوان ( ان مصر في حاجة الى ديكتاتور.. فهل هو علي ماهر) " تحمس فيه للدفاع عنه وقال أنه يعتد برأيه الى حد لا يسمح معه للوزراء بالتفكير ثم قال .. " ومصر تقبل معه ان يعتد برأيه الى حد ان يصبح ديكتاتورا للشعب لا على الشعب .. ديكتاتورا للحرية لا على الحرية ، ديكتاتورا يدفعها الى الامام ولا يشدها الى الخلف .. " هكذا كتب أحمد حمروش في كتاب لا يمكن " اتهامه " بأنه مع عبد الناصر ، شاهداً معاصراً لذلك الجيل النشيط قبل 1952 ومثله الأعلى الذي كان يحلم به . مستشهدا بما قاله كاتب ينتمي الى ذلك الجيل ذاته هو احسان عبد القدوس الذي لعب دورا مرموقا في التمهيد الفكري والاعلامي لثورة 23 يوليو. ولقد عبر احسان عبد القدوس عن مواصفات ذلك المثل الاعلى ووظيفته حين قال " ديكتاتورا للشعب لا عليه.. ديكتاتورا للحرية لا عليها " .
وانه لمثل أعلى " اسطوري " أسهم في تكوينه فكريا تيار التجديد الاسلامي الذي بدأه جمال الدين الافغاني وتلامذته العديدون في مصر . وأسهم في تقبله العام الفشل الذريع الذي صادف تجربة الديموقراطية الليبرالية في مصر .
ولقد بلغ القبول العام لهذا المثل الاعلى حد أن أنصار الديموقراطية الليبرالية أنفسهم لم يكونوا ينكرونه بل كانوا يتخذونه مبررا للقرارات ظاهرة الاستبداد .

الزعامة المقدسة:

كان حزب الوفد منذ تأسيسه ليبراليا ومدافعا صلبا عن الديموقراطية الليبرالية بحيث تكاد معاركه ضد القصر وأحزاب الاقلية ودفاعه عن الدستور والحريات الليبرالية تستغرق كل حياته. وهي- على أي حال- أنصع صفحات نضاله ، ومع ذلك فانه منذ تأسيسه أيضا لم تخضع قيادته لرأي غالبية الاعضاء الا في المسائل التي لا تهم القيادة . وأعطى قائد الوفد سعد زغلول ومصطفى النحاس؟ نفسيهما " استبدادية " في مواجهة أعضاء الحزب تكررت حتى استقرت تقليدا في الحزب الليبرالي العتيد . ففي عام 1921 قرر سعد زغلول- منفردا- فصل أغلبية أعضاء الوفد (عشرة من أربعة عشر- والوفد هنا تطلق على القيادة العليا للحزب) . وفي عام 1932 كرر مصطفى النحاس الامر ذاته فاتخذ قرارا منفردا بفصل أغلبية الوفد (ثمانية من احد عشر). ولقد كان هذا التقليد الاستبدادي من بين أسباب الانشقاقات المتتابعة التي حدثت في الحزب
وكانت السبب الرئيسي في خروج ( او فصل ) المرحوم الاستاذ عباس محمود العقاد والسيدة روز اليوسف والدكتور أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي على الوفد او عنه .
ولقد فصل محمود فهمي النقراشي يوم 13 سبتمبر 1937. ولم يكن النقراشي عضوا عاديا في حزب الوفد . كان يلقب باسم " ابن سعد " وكانت تسانده الى أبعد الحدود " السيدة الجليلة " ام المصريين " أرملة " سعد زغلول . وكان يعد نابغة التنظيم في الوفد ويحظى باعجاب أغلبية قواعده ، وكان كما وصفته جريدة التايمز، أحد زعماء الوفد الأربعة البارزين وضابط الاتصال بينهم وبين الصحف الاجنبية . و منظم صفوفهم الاكبر . وقد وصفته جريدة الديلي ووكر الشيوعية البريطانية بانه " ينتمي الى حزب اليسار في الوفد ويمثل الآراء الرحبة الواسعة بين الموظفين المستنيرين والطلبة وجزء من طبقات العمال . هذا بالاضافة الى نزاهته المطلقة واستقامته الخلقية وجهاده البطولي في سبيل الاستقلال وضد قوى الاحتلال بأساليب استحق عليها السجن ومخاطر الاعدام " …
بسبب ذلك المكان المرموق للنقراشي لم يمر قرار فصله بسهولة . وطرحت من خلال الدفاع عنه أو الهجوم عليه " ايديولوجية " ما عرف في تاريخ الوفد باسم الزعامة المقدسة . واستعاد أنصار النحاس ما كانت قد نشرته الجريدة الوفدية " كوكب الشرق " يوم 3 يناير 1936 عن الزعامة . قالت : " ماخلت نهضة عامة من زعامة ولا أقفرت حركة وطنية من قيادة ، ولا قامت ثورة إلا على توجيه . ومن ثم كان للزعيم في الحركات القومية قداسة لا يمسها شئ ومقام لا ترتفع اليه ظلال الشبهة، واوج لا يبلغه اتهام . ان الجماعات هي التي تختار زعمائها ولكن الاختيار نفسه لا يلبث ان يحيط ذاته بالقداسة والتكريم الواجبين للمعنى المتمثل به فان الزعيم هو الجماعات نفسها في فرد، كما ان الجماعات هي الفرد نفسه ممثل فيه . " وردد مصطفى النحاس نفسه هذا المعنى ونسبه الى ذاته يوم 10 سبتمبر 1937، تمهيدا لفصل النقراشي بعده بيومين قال : " ما كنت في يوم من الايام رئيس حزب او هيئة ، بل زعيم أمة بأسرها ، فمن خرج عليها صبت عليه غضبها، ومن وقف في طريقها كان كمن يقف أمام التيار الجارف يكتسحه فيلقيه في قاع اليم، فلا يجد لنفسه مخرجا ولا إلى الحياة طريقا ". تلك كانت فكرة الزعامة المقدسة التي يستند اليها رؤساء حزب الوفد ليبرروا قراراتهم الاستبدادية . اعني القرارات التي تصدر غير متفقة مع قواعد اتخاذ القرارات جماعياً وسيادة رأي الأغلبية . ولقد كان المرحوم الاستاذ الاستاذ عباس محمود العقاد من الذين أنكروا تلك الفكرة واستنكرها وتساءل : " كيف تتحقق الديموقراطية مع فكرة تقديس الزعامة ؟ " والواقع أن الاستاذ العقاد كان ينكر ويستنكر ، بمنطق ليبرالي غربي خالص بينما كانت فكرة الزعامة ذات جذور أكثر عمقاً في التراث العربي . فقد اختار ذلك التراث الرموز المتفرقة في تاريخه وقام على محاورها أو لنقل زعمائها بنيان التاريخ كله . فكان التاريخ العربى المكتوب او المدرس على نمط التاريخ الشعبى المتداول في القصص الشعبي ، سلسلة متصلة من " السير الذاتية " سير الابطال او كاد يكون ذلك . ولو جمعنا خصائص اولئك الذين ذكرهم التاريخ من الابطال لما أسفر البحث الا عن مجموعة من " الشجاعة والحكمة والعدل " وذلك هو المستبد العادل المثل الاعلى لكل حاكم كما هو كامن في وجدان شعب عانى أجيالا من الخوف والجهل والظلم . وهنا نتبين ان " المستبد العادل " لم يكن في وجدان الشعب شخصا بل كان رمزا لما ينقص الشعب نفسه او ما يحتاج اليه الشعب نفسه .
أيا ما كان المبرر التاريخي لفكرة " المستبد العادل " وسيطرتها على العقل العربي قبل عام 1952 فإن " الزعامة المقدسة " لم تكن الا صيغة وفدية لتلك الفكرة ، وضعت في التطبيق وسيطرت على تصرفات أكثر الأحزاب ليبرالية في ذلك العهد .



البيعة على الطاعة :

ولقد كان " الاخوان المسلمون " قبيل ثورة 1952، أكثر الجماعات المنظمة بعد الوفد او ربما قبله ، قبولا من الشعب ، وكان المستبد العادل هو نموذج الحاكم الذي يدعو له الاخوان صراحة . بل ان تنظيمهم ذاته قد قام منذ البداية على أسس من بينها التسليم بصحة هذه الفكرة كشرط لقبول الانتماء اليه . فمنذ أسس المرحوم حسن البنا " جماعة الاخوان المسلمين " " في الاسماعيلية في ذي القعدة من عام 1347 هجري- مارس 1928 (هكذا تقول وثائق الجماعة مع ان ذي القعدة 1347 يوافق أياما مشتركة من شهري ابريل ومايو سنة 1929) ، نشأت ونمت على أساس من نظام " البيعة والتسليم الكامل للقيادة " احتجاجاً بقوله تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " . وكان على كل أخ مسلم من أعضاء الجماعة أن يتأكد من صدق ولائه للدعوة بأن يسأل نفسه عما إذا كان مستعداً لأن يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب إذا ما خالف رأيه رأي القيادة ولم يكن كل ذلك إلا ترجمات بصيغ مختلفة لفكرة " المستبد العادل " .
اذن ، في تلك المرحلة من التاريخ العربي ، يا أيها الجيل الجديد من الشباب ، لم يكن الاستبداد أقل أمنية يتمناها الجيل المصري الذي كان في ذلك الوقت جديداً . فإن اردتم أن تحاكموا " استبداد " عبد الناصر عام 1953 فحاولوا - ان استطعتم - أن تحاكموه طبقا لقوانين جيله . ولقد علمتم الآن كيف أن حجة الذين انكروا على عبد الناصر في عام 1953 ، استئثاره بالسلطة كانت حجة داحضة . فلقد كانوا يسلمون أمورهم الى قيادتهم تسليما غير مشروط وينكرونه على عبد الناصر . أعني أنهم لم يكونوا على أي وجه ديموقراطيين ليقيم الشعب وزناً لدعاويهم الديموقراطية . ولقد كانت مطالب الليبراليين في ذلك الوقت تنتهي - كخلاصة : إلى أن يسلم عبد الناصر السلطة الى " الزعيم " مصطفى النحاس أو الى " الامام " حسن الهضيبي ، ولم يكن في ذلك شيء يمت بصلة الى الديموقراطية . فحتى لو افترضنا فيهم جميعا العدالة فقد كان كل منهم - عند انصاره - مستبداً عادلاً . ولم يكن عبد الناصر ، قائد الثورة ، أقل انصاراً .
تلك كانت آراؤهم ولكن هل يمكن أن يكون المستبد عادلاً ؟؟؟
هنا موقع الملحوظة الثانية .

الاستبداد و الديكتاتورية:

تتوقف الاجابة على ما نعنيه بالاستبداد .. ان كان المقصود بالاستبداد الاستئثار بالسلطة ، بمعنى ان تجتمع كل السلطات في يد واحدة ، فقد استبد عبد الناصر بالسلطة ابتداء من منتصف يناير 1953 الى منتصف يناير 1956 . أعلن هذا وصاغه نظاماً للحكم وسد به سداً حاسماً كل فرص العودة الى السلطة أو المشاركة فيها في أوجه الليبرالين وأحزابهم . أما إذا كان المقصود هو الاستبداد " بالشعب " فإن شعب مصر لم يخسر عام 1953 شيئاً كان له من قبل . لم يكن يحكم ولا كان يشارك في الحكم ولم تكن لارادته أثر يذكر في شؤون السلطة والصراع على توليها بين الاحزاب والقصر والمحتلين . وعلى الذين يريدون الآن محاكمة استبداد عبد الناصر عام 1953 أن يفلتوا أولا من اسار التجريد وان يختاروا لكلماتهم دلالات محددة . فالواقع أن استبداد قيادة الثورة بالسلطة في بداية عام 1953 لم يكن الا نقطة انطلاق الى اتجاهات متناقضة وكلها محتملة الى مجرد الاستيلاء على السلطة لترتد الثورة انقلابا أو إلى تسخير السلطة في سبيل قهر الشعب ( الاغلبية لمصلحة الاقلية ) أي الديكتاتورية . او الى تسخير السلطة لتحرير الشعب من القهر (اخضاع الاقلية للاغلبية) أي الديموقراطية. و هكذا يكون الأستبداد بالسلطة ابتداء مثل الحكم على الثورة ذاتها. والثورة نشاط غير ديموقراطي في بدايته ويتوقف مصيره على اتجاهه وآماله . ان استخدمت من أجل " حل مشكلة الديموقراطية " فهي ديموقراطية بقدر ما تحقق من تقدم في هذا الاتجاه . وان استخدمت من اجل الابقاء على مشكلة الديموقراطية او تعميقها فهي ديكتاتورية . والمقياس- كما قلنا من قبل ونكرر الآن- هو ما تفيده او تخسره أغلبية الشعب .
فالى أين اتجه عبد الناصر بالسلطة التي استبد بها في بداية عام 1953 ؟؟
في نهاية ذاك العام ، قال عبد الناصر يوم 7 ديسمبر 1953 : " نحن لا نؤمن بالديكتاتورية ونعرف جيدا انها اذا عاشت سنة او سنتين فلن تستمر . سيأتي اليوم الذي يظهر فسادها وينكشف أمرها وتكون الديكتاتورية وبالا على الوطن و المواطنين .. ".
فما الذي حدث خلال عام 1953 وحمل عبد الناصرعلى ان يدين الديكتاتورية في نهايته بعد ان كان قد استبد بالسلطة في بدايته ؟ .

معذرة فإني لا أستطيع:

كنا قد وعدنا القراء بان نترك الحديث عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر لعبد الناصر ومشكلة الديموقراطية؟ وان نكتفي بالمراقبة من بعد قريب . وبعض الوعود تغالب الواعدين فتغلبهم واني لاعتذرعن التدخل في سياق الحديث لاقول كلمة ليست من سياقه.
اكتب هذه الكلمات يوم 5 يونيو 01977 الذكرى العاشرة لليوم الحزين . يوم الهزيمة المنكرة . يوم ان ظهر ما كانت القوى المعادية لأمتنا قد دبرته و خططت له واستدرجتنا اليه فضربت ضربتها الصاعقة. ولقد اعترفوا من بعد ان ضربوا أن هدفهم الأساسي كان اسقاط قاثد معارك التحرر العربى ، عبد الناصر، ونظامه، وهزيمة امته. ولقد نالوا منه ومن نظامه ومن امته ما نالوا ، وهو جسيم ، و لكنهم لم يسقطوه ولا أسقطوا نظامه ولا هزموا امته . فقد احتضنته وحمته الجماهير العربية الهادرة من المحيط الى الخليج واعادته الى موقع القيادة ثقة منها في مقدرته . كان ذلك في يومي 9 و 10 يونيو 1967.. وسيثبت التاريخ ، و قد أثبت فعلا ، أن أعظم أيام عبد الناصر وأكثرها إجلالا هي الايام التي تلت الهزيمة المنكرة. ففي يوم 5 يونيو 1967 لم يمت عبد الناصر ولكنه استرد ملء حياته وحيويته . نالت الهزيمة من عبد الناصر الحاكم وأبرزت عبد الناصر الزعيم . اضعفت رجل الدولة " الحكيم " الذي يتعامل بالممكن ، وكان الممكن صفراً ، وقدمت القائد الثائر الذي يتحدى بما يجب أن يكون مبتدئاً من الصفر أيضاً .. بكل مقاييس الحكمة والمرونة والعقول المفتوحة والواقعية كان على عبد الناصر أن يستسلم مفاوضة وصفحا واعترافا بالذين هزموه على أثر الهزيمة .. ولكن بمقياس القيادة والزعامة والثورة كان على عبد الناصر أن يلبي نداء جماهير امته ويقودها على طريق : " لاصلح . لا مفاوضة . لا اعتراف " ولقد اختار عبد الناصر الطريق الذي لا يختاره الا الابطال …
و ذلك فان وزارة الاعلام في مصر، قد أذاعت أمس بيانا تنبه فيه الى ان حملة التشهير بعبد الناصر قد تجاوزت مداها وتحتج عليها بالحرص على " .. ارساء قيم مجتمعنا في احترام الماضي والمحافظة على كرامة الموتى ممن لم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم واظهار الحقائق للناس " ... ويضيف البيان حجة يراها جديرة بانتباه الذين يشهرون بعبد الناصر فيقول ان الرئيس أنور السادات كان شريكا له في مسئوليات حكمه.. لا... لا... لا...
ان عبد الناصر ليس في حاجة الى من يدافع عنه. اذ " ان الله يدافع عن الذين آمنوا ". ولله من بين الناس أصوات حق تدافع عنه ، لا لأنه ماض يجب احترامه ولا لأنه ميت لا يقدر على الدفاع عن نفسه ولا لأن الرئير أنور السادات كان شريكا له ... ولكن لأنهم ، فيه ، يدافعون عن المستقبل الذي يجب بناؤه ، وعن الامة العربية التي لا تموت، وعن الشعب الذي لا يملكه أحد، ملكية فردية او ملكية مشتركة، يدافعون عن التاريخ ، وعبد الناصر أروع صفحات تاريخ هذه الامة ، ويدافعون عن المصير لأنه- طال الزمن اوقصر- فان الحرية والوحدة والاشتراكية التي عاش من أجلها عبد الناصر هي المصير المحتوم لهذه الامة...
ثم اننا ، بعد هزيمة 5 يونيو 1967 وآثارها الصاعقة التي افقدتنا الوعي فترة وكادت ، قد عدنا وتحت قيادة عبد النا صر نعرف من أمرها وأمرنا أكثر مما كنا نعرف .. كنا نعرف الهزيمة ونردها الى أسبابها الثانوية. ذات الأسباب التي أراد الاعداء ان يدسوها في عقولنا لنستسلم : " عيوبنا نحن ، عجزنا نحن . تخلفنا نحن ، ما قلناه نحن . ما فعلناه نحن . لنكون " نحن " الذين جنينا على أنفسنا ويكون الاعداء أبرياء مما أصابنا. كأننا نحن الذين اغتصبنا الارض وبدأنا العدوان وتجاوزنا الحدود .. و استطاعوا- لفترة- ان يلهونا عن الاسباب الحقيقية للهزيمة .. ان قوى عالمية عاتية حشدت كل مكرها وأدواتها وعتادها لتصفي الثورة العربية التي كان يقودها عبد الناصر لتوقف التحول الاشتراكي الذي كان قد بدأه عبدا الناصر لتدمر طاقاتنا الاقتصادية التي كانت بدأت لاول مرة تعطي ثمار التخطيط العلمي والتصنيع حياة ورخاء لشعبنا العظيم . كأنهم لم يقرأوا اعترافات العدو- في غمرة غروره بالنصر - عن أن خطة 1967 قد وضعت وبديء في التدريب عليها فور الوحدة 1958 لتصفية المد الوحدوي الذي كان يتقوده عبد الناصر ، والذي ما يزال يمثل بالنسبة للأمة العربية أملها الوحيد في تحقيق الحرية والتقدم والحفاظ عليهما.. وان انفصال 1961 ذاته لم يكن إلا جزءاً مبكر التطبيق لخطة عدوان 1967 .
كلا . لقد أفقنا وعرفنا فحولنا مرارة الهزيمة إلى عزيمة نضال لا يتوقف ضد الذين هزمونا ، وحولنا وقف النار فور الهزيمة إلى حرب الاستنزاف التي بدأت فوراً . وحولنا أشتات قواتنا العسكرية الممزقة إلى قوات النصر في معركة اكتوبر 1973. وحولنا الحزن العميق على شهدائنا إلى حقد غير محدود على الذين قتلوهم .
وكان كل ذلك تحت قيادة عبد الناصر قبل أن يموت .
وفي 5 يونيو من كل عام نسترجع ذكرى اليوم الحزين بكل عناصره .. نسترجع مرارة الهزيمة لنغذي عزمنا على النضال الطويل . ونسترجع صور قواتنا المشتتة في صحراء سيناء لنغذي كفاءة قواتنا على استراداد سيناء وما بعد سيناء . ونسترجع حزننا العميق على شهدائنا لنغذي حقدنا غير المحدود على الذين قتلوهم .
ولكن ، أبداً .. أبداً .. أبداً .. ، لاتختلط " الفرحة " بمشاعرنا في 5 يونيو من أي عام .
ومع ذلك ، نقرأ في إحدى صحف أمس من ينصحنا بألا نبكي على 5 يونيو وان نشكر هذا اليوم … لأنه أوصلنا الى 15 مايو . فنعتذر له عن عدم مقدرتنا . وطنياً وعقلياً ونفسياً ، على قبول نصيحته . ونعتذر للقراء عن تدخلنا في سياق الحديث " عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر " .

(8) حجر في الماء الراكد

التحرير.. و التحريض :

في بداية عام 1953 حسم الأمر وتولت الثورة الحكم في مصر منفردة وجمعت كل السلطات التشريعية والتنفيذية في يد مجلس قيادة الثورة ، اسميا، وفي يد عبد الناصر فعلياً على الوجه الذي ذكرناه من قبل . وقد كان ذلك ديكتاتورية ساحقة ضد الأقلية الحزبية التي حرمت من المساهمة في الحكم وسدت في وجهها كل طرق العودة إلى السلطة . أما بالنسبة إلى الشعب الذي لم يخسر شيئاً كان له من قبل ، فإن استئثار الحكام الجدد بالسلطة دون الحكام القدامى لم يكن يعني عنده إلا أملأ غامضاً في نوايا الثورة وموقفها منه. وقد كان يمكن أن يكون الأمر كله انقلاباً حل به مستبدون جدد محل مستبدين مهترئين ، ويبقى الشعب غائباً وتبقى مشكلة الديموقراطية كما كانت من قبل . كان يمكن أن يكون الأمر كله على هذا الوجه لولا أن الثورة ، ثورة عبد الناصر ، أو عبد الناصر الثورة ، كانت من قبل قد أخذت تنسج علاقاتها مع الشعب مباشرة متخطية كل الأساليب الليبرالية الموروثة ، تحاول من خلال تلك العلاقات تحريره .. وتحريضه .
أما عن تحريره فقد كان قانون الإصلاح الزراعي هو أقصى ما وصلت إليه - في تلك المرحلة - بالنسبة إلى الفلاحين . وكان منع الفصل التعسفي ومحاولات إيجاد فرص عمل للعاطلين هو أقصى ما وصلت إليه بالنسبة إلى العمال والقادرين على العمل .
أما عن تحريضه، نعني تحريض الشعب على الخروج من السلبية والزج به في ميدان النشاط العام اهتماماً وممارسة، فقد اختارت له أسلوباً غريباً غير مسبوق في تاريخ مصر والعالم الثالث كله ، على قدر ما نعلم من تاريخ العالم الثالث . ذلك الأسلوب الغريب هو : هيئة التحرير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة