الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

هل كان عبد الناصر ديكتاتورا 5 ؟؟؟ لعصمت سيف الدولة

من كتاب هل كان عبد الناصر ديكتاتورا 5 - عصمت سيف الدولة

 هل كان عبد اتلناصر دكتاتورا - عصمت سيف الدولة
الحياد المستحيل:

من كل ما سبق، وأمثاله كثير ، يتضح بجلاء أن الديموقراطية كانت، في مفهوم الرئيس عبد الناصر، في تلك المرحلة، مقدرة ذاتية قابلة للاكتساب بالوعي ومغالبة النفس حتى تتحرر من الخوف والفزع. وان الجماهير لا تنقصها إلا التعبئة والتوعية والثقة بالنفس بعد ان قضى على الاقطاع " و سيطرة رأس المال على الحكم " ، حتى تسترد الديموقراطية عافيتها وتفرض ارادتها . وأنها الى حد كبير كانت مسئولة عن الاستبداد بها فهي- حينئذ- مسئولة عن أن تأخذ بيدها زمام أمرها فلا تسمح بالاستبداد من جديد. وان وظيفة هيئة التحرير كانت - على وجه التحديد- تنظيم الشعب وتعبئته وحشده وتوعيته ودفعه بعيدا عن السلبية والركود السابق وتحريضه على ان يحرر نفسه من الخوف والفزع .
أجاب عبد الناصر ، اذن ، عن أسئلتنا : كيف؟ .. ولقد كانت اجابته صحيحة الى حد محدود. ولكن بالرغم من ان تلك كانت خطوة تقدمية على طريق الديموقراطية في شعب كان - فعلا- قد لاذ بالسلبية وخرج عن نطاق الاهتمام بالمسائل العامة ، الا انه لا يمكن تجاهل الرؤية المثالية لمشكلة الديموقراطية التي كانت تواكب، وتتغلب في كثير من الاوقات ، على الرؤية الاجتماعية كأثر من اثار المفهوم الليبرالي العام للديموقراطية في هذه المرحلة.
ولقد كانت غلبة المثالية أكثر تجليا في الخطب المتكررة للرئيس الراحل عن التسوية الحيادية بين المواطنين . قال مخاطبا أصحاب محال القاهرة وضواحيها يوم 12 ديسمبر 1953 : " ان هناك فرقا كبيرا بين الفوضى والحرية وان حرية صاحب العمل تبدأ عندما تنتهي حرية العامل وحرية العامل تبدأ عندما تنتهي حرية صاحب العمل . ان هذه الحكومة كانت اول حكومه تحمي العامل في حدود رعاية حق العمل ورسالتها التوفيق بين العامل وصاحب العمل فمن اشترط من الفريقين فقد هدم بناء التضامن الذي يقوم عليه مجد مصر".
وقال يوم 13 ديسمبر 1953: " اننا لا نود ان نقدم مطالب طائفة على اخرى ولا ان نرفع طائفة على مستوى الطوائف الاخرى وذلك حتى لا يرتفع مستواها الاجتماعي على حساب طوائف اخرى . واننا نود ان نقوم بحل المشكلة العامة لا المشاكل الخاصة. فهناك عمال متعطلون يريدون العمل ونحن بدورنا نعمل على ايجاد عمل لهم ونعمل على حماية العامل من أصحاب العمل ونحي أصحاب العمل فنكون حكاما بين العامل وصاحب العمل ".
وقال في شبرا الخيمة يوم 25 ديسمبر 1953: " وإني اؤكد لكم انه لا يوجد شخص الان يستطيع ان يستغل الحكم في سبيل مصلحته الخاصة . نحن الان نعمل في سبيل صاحب العمل وفي سبيل العامل لأن مصالحهما مشتركة. يا اخواني : اننا نتجه الى المحافظة على مصلحة العامل وعلى مصلحة العمل الى بناء عهد جديد من الصناعة وهذا العهد هو الذي سيمكننا من ايجاد عمل للعمال المتعطلين ".
وقال مخاطبا منظمات الشباب يوم 3 يناير 1954 : " ان الرسالة التي ادعوكم اليها هي التعاون في الخير وليكن كل منكم عطوفا على الاخرين فتكون كتلة واحدة متحابة متآخية فلا تجاهروا با لعدوان ولا تكونوا معتدين . وإذا خرج واحد من الصف فانصحوه واثيبوه الى رشده فلا نكون كما كانت الحال في الماضي شيعا وأحزابا. كونوا على الدوام رسلا للوحدة والمحبة والتعاون فنحافظ على قوة الوطن المعنوية والمادية " .
وقال في قوة عمال المحلة مساء يوم 3 أبريل 1954 : " أنتم اليوم مسئولون عن هذا الوطن فيجب ان تحافظوا على وحدة أبنائه من أجل وطنكم وعائلاتكم ان تتعاونوا مع جميع طبقات الامة تعاونا وثيقا حتى تؤدي الثورة رسالتها كاملة . وأوصيكم ان تعتصموا بالصبر. كما أحذركم من شائعات المضللين الذين يندسون بينكم بالوعود الخلابة والكلام الزائف . ولست بحاجة الى ان أقول ان بلادنا تجتاز الان اولى مراحلها نحو التصنيع ولهذا يلزم ان تحافظوا على الثقة التي يجب ان تتوفر بين العمال وأصحاب العمل . ونحن الان في دور بناء لنهضتنا و سنصل بلا شك الى الاستقرار الصناعي قريبا جدا ".
وقال مخاطبا ممثلي المحافظات في قاعة مجلس النواب يوم 23 اكتوبر 1954: " يا اخواني ، يجب ان يشعر كل فرد بان عزة المواطن الاخر تتمثل في عزته وبان كرامته جزء من كرامة أخيه. لان كرامتكم جزء من كرامتي وعزتكم جزء من عزتي وبهذا يا اخواني اذا دافعتم عن عزة الاخرين وكرامتهم وحريتهم فانما تدافعون عن عزتكم وكرامتكم " .
وقال مخاطبا وفود الوجه البحري والقناة يوم 24 اكتوبر 1954: " ان مصر التي تطهرت اليوم من الاستعباد والاستغلال لتهيب بكم ان تناصروها . ان مصر تريد منكم ان تنكروا ذواتكم من أجلها ومن أجل أبنائكم وأحفادكم لتعملوا على المحافظة على ما وهبنا الله من عزة وكرامة وبهذا نستطيع ان نسير في الطريق الذي نهدف اليه طريق العزة والحرية والاستقلال ولنعمل على المحافظة على ذلك وتحقيق هذه الاهداف فمصر تنتظر منكم عملا دائما واتحادا وتآلفا متناسين الخلافات والاحقاد سائرين في طريق تحقيق الهدف الاعظم وهو بناء مصر بناء شامخا عزيزا وايجاد عداله اجتماعية صحيحة والسلام عليكم ورحمة الله ".
ولقد تكرر هذا المعنى في خطبة ألقاها في جامعة الاسكندرية يوم 26 اكتوبر 1954، وفي مؤتمر العمال بميدان الجمهورية يوم 29 أكتوبر 1954، وفي افثثاح أول وحدة مجمعة في قرية برنشت يوم 13 أبريل 1955، وفي القاهرة يوم 23 يوليو 1955.
ولعل من أكثر أقواله دلالة على الموقف الحيادي ما قاله في المنيا موجها خطابه الى " الكافة ". قال يوم 5 يوليو 1955 " اذا قلنا ان فترة الانتقال قد انتهت تماما فانما نعني انكم جميعا قد أصبحتم مجلس الثورة لا عشرة منكم فقط ، ان الشعب جميعا حينما تنتهي فترة الانتقال يصبح هو مجلس الثورة . هذا هو مجلس الثورة . هذا هو معنى الديموقراطية وهذا هو معنى الحرية وهذا هو معى البرلمان ".

لحظات التردد:

عرفنا من قبل ان دستور عبد الناصر (1956) قد نص على ان يكوّن المواطنون اتحادا قومياً لتحقيق الاهداف التي قامت من أجلها الثورة ولحث الجهود لبناء الامة بناء سليما من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية ". ويتولى الاتحاد القومي الترشيح لعضوية مجلس الامة و " تبين طريقة تكوين هذا الاتحاد بقرار من رئيس الجمهورية ".
كان ذلك في 16 يناير 1956.
أما الاهداف التي قامت من أجلها الثورة فقد كانت معلنة ومعروفة ومن بينها القضاء على الاقطاع الذي ترجم فعلياً في قانون الاصلاح الزراعي ، ومن بينها القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم . اذن، فان " نظرية " الاتحاد القومي كانت واضحة او قريبة من الوضوح . وتحمّل عبد الناصر شخصياً مسئولية تكوين الاتحاد القومي .
وقد استنفد عبد الناصر، سنة وخمسة أشهر لوضع طريقة تكوين الاتحاد القومي بالرغم من الضرورات الدستورية، أو الديموقراطية التي كانت تستوجب الاسراع في تكوينه. فقد بدأ تنفيذ الدستور، وفتح باب الترشيح لانتخابات مجلس الأمة وترشيح من ترشح دون ان يكون للاتحاد القومي وجود ليؤدي وظيفته الدستورية. وبعد قفل باب الترشيح أصدر عبد الناصر قرارا ( في 28 مايو 1957)- لا بتكوين الاتحاد القومي- ولكن بانشاء لجنة مؤقتة تدعى اللجنة التنفيذية للاتحاد القومي مشكلة من عبد اللطيف البغدادي وزكريا محي الدين وعبد الحكيم عامر.. هذه اللجنة التنفيذية المؤقتة هي التي شكلت او وضعت أسس تشكيل الاتحاد القومي..
ان هذه الواقعة العابرة في تاريخ عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر لم تستحق الانتباه من الذين كتبوا التاريخ او كتبوا المذكرات ، في حين انها تكشف عن الصراع الخفي الذي كان يدور، في رأس عبد الناصر اولا، وفي مجلس قيادة الثورة ثانيا ، بين المفهوم الليبرالي والمفهوم الاجتماعي للديموقراطية والذي انتهى بانتصار المفهوم الليبرالي فأحدث في تاريخ حل مشكلة الديموقراطية في مصر انفصاما على جبهتين . انفصاما بين دستور عبد الناصر ونظريته الديموقراطية التي يمثلها الاتحاد القومي ، وبين الاتحاد القومي كما قام في الواقع . وانفصاما ما بين الاتجاه الديموقراطي الاجتماعي الذي كان يتجه اليه عبد الناصر اتجاها متزايدا وبين الاتجاه الليبرالي الذي تمثل بقوة في أعضاء اللجنة التنفيذية التي شكلت الاتحاد القومي فعلا .
ان هذا الانفصام الذي جاء بعد سنة وخمسة أشهر من الانتظار وانتهى بتخلي عبد الناصرعن مهمة اقامة الاتحاد القومي ، وتولى الاتجاه الليبرالي اقامته يوحي الينا ايحاء قوياً بان عبد الناصر كان مترددا في صيغة الاتحاد القومي الذي كلفه الدستور ببيان طريقة تكوينه وان ذلك التردد قد انتهى الى تخليه عن مهمته وسمح- في الوقت ذاته- بان يتصدى الاتجاه الليبرالي لاجهاض الرؤية الديموقراطية الاجتماعية التي تضمنها الدستور.. وينتصر.
ويبدو هذا واضحا من الفارق الجوهري بين رؤية عبد الناصر لكيفية تكوين الاتحاد القومي و بين الاتحاد القومي كما تم تكوينه فعلا .
قال في المؤتمر التعاوني الثاني يوم اول يونيو 1956 : " قلنا نعمل اتحادا قوميا. وهذا الاتحاد عبارة عن جبهة وطنية تجمع أبناء هذا الشعب ما عدا الرجعيين وما عدا الانتهازيين وما عدا أعوان الاستعمار لأن الرجعيين أعوان الاستعمار والانتهازيين هم الذين تحكموا فينا وسلمنا لهم وأعطيناهم الفرصة ليمارسوا حريتهم في الماضي فخافوا هذه الامانة التي حملها لهم هذا الشعب واليوم عندما نقول هناك اتحاد قومي لا نستطيع اعطاء الفرصة للرجعية او الانتهازية ولا لاعوان الاستعمار ابدا . الفرصة ستكون للشعب ، الاغلبية العظمى من هذا الشعب ، الناس الذين حرموا من حريتهم أيام كانت هناك برلمانات زائفة كنا كلنا نشكو منها ونعرف انها لا تحقق رغباتنا ولا تعمل لصالحنا، ولكنها تعمل لمصلحة فئة قليلة من المستغلين او من الاقطاعيين او من الحاكمين الذين يريدون حكما وشهوة وسلطانا. هذا الكلام كان في الماضي واليوم ، في هذه المرحلة الجديدة فلن تكون هناك حرية سياسية للانتهازيين او الرجعيين او أعوان الاستعمار. اذن الاتحاد القومي يشمل جميع أبناء هذه الامة . هذا هو الاتحاد القومي كما أتصوره . كيف سيكون هذا الاتحاد القومي ؟ .. انه سيستغرق وقتا طويلا ولا أقدر أبدا يوم الاستفتاء على الدستور يوم 23 يونيو ان أقول : ان هذا هو الاتحاد القومي هذا الاتحاد القومي الذي بعبر عن هذه الاهداف يجب ان تتمثل فيه جميع العناصر الخيرة في هذا الوطن . جميع العناصر العاملة، جميع العناصر البناءة في هذا الوطن . الاتحاد القومي لم يتكون حتى الان ولن يعلن تكوينه يوم 23 يونيو او يوم 25 يونيو بالكامل . لأن هذا الشعب يجب ان يأخذ الفرصة ليعمل ونتيجة عمله هي السبب الوحيد الذي يدخله الاتحاد القومي ".
ويكرر هذا المعنى في خطابه في الاحتفال بالجلاء يوم 19 يونيو 1956، وهو يربط بين تصوره للاتحاد القومي وبين الديموقراطية السليمة ، أحد الاهداف الستة للثورة ، فيقول : " وكان الهدف السادس من أهداف الثورة هو اقامة حياة ديموقراطية سليمة ولم نقل ديموقراطية فحسب . فقد كنا نعيش جميعا تحت اسم الديموقراطية وتحت اسم البرلمان والبرلمانية ، ولكنا لم نكن نتمتع من الديموقراطية الا باسمها. ولكن معناها وأصولها وجذورها كانت مفتقدة كنا لا نحس بها ولانشعر بها . وكنا نشعر ان هذه الديموقراطية ليست لنا ولكنها كانت علينا من أجل فئة من الناس . فقدت الدمموقراطية معناها وروحها وأسبابها. وتحت اسم الديموقراطية تحكم فينا الرجعيون والمستغلون والانتهازيون . تحكمت فئة قليلة كانت تتجر بالديموقراطية . وكان الشعب ينظر ويكتشف ويعرف و يعلم . ونحن كشعب قاسينا طويلا نستطيع ان نعرف الخديعة والخداع والتضليل . تحت اسم الديموقراطية يا اخواني قاسينا كثيرا وكانت الديموقراطية كفاحا من أجل الحكم وكفاحا أجل السيطرة والاستغلال والثراء والسلطة والسلطان . ولهذا حينما كتبنا هذه المباديء قبل الثورة كنا نعبر عن احساس الشعب وعن آمال هذا الشعب . كتبنا الهدف السادس من أهداف الثورة وهو اقامة حياة ديموقراطية سليمة نتلافى بها ما فات . لا نكتفي منها بالبرلمانية ولا بالاسم ولكن بحياة ديموقراطية من أجل أبناء هذا الشعب جميعا . من أجل الاغلبية العظمى من هذا الشعب ، لا من أجل الاقلية ولا من أجل المستغلين و المستبدين " .
حين قال عبد الناصر هذا لم يكن الاتحاد القومي قد تم تكوينه. ولا نستطيع ان نقطع بما اذا كان عبد الناصر يعبر عن رأيه في كيفية اقامة اتحاد قومي تعبيراً بدون " خلفية " ام انه كان يرد عن طريق مخاطبة الشعب على اتجاه في الرأي لم يقبل تصوره وقد كان من عادته ان يفعل ذلك حين يريد ان يشرك الناس في اختلاف الرأي في مجلس قيادة الثورة لاختبار اتجاه الرأي العام .
أيا ما كان الامر فان تصور عبد الناصر لتكوين الاتحاد القومي كان يقوم على محورين أساسيين. أولهما: عدم اباحة عضويته لعملاء الاستعمار والانتهازيين والرجعيين وهي مقاييس مجردة تجد فرصتها في التطبيق على أي شخص تبعا لموقفه ومسلكه من أهداف الثورة ومنجزاتها. ولا شك ان تعبير الرجعيين كان يلتقي التقاء موضوعيا مع الاقطاعيين ومن تناولهم قانون الاصلاح الزراعي وكبار الراسماليين . المحور الثاني - وهو منسجم مع المحور الاول - هو الا تباح عضوية الاتحاد القومي الا لمن ترشحه مواقفه ومسالكه لهذه العضوية من بقية أفراد الشعب. وبالتالي يبقى مفتوحا الى ان يتكون تبعا للفرز الفعلي للمواقف وأصحابها على ضوء برامج للثورة ومواقفها. وكان هذان المحوران يعنيان- بأكبر قدر من الوضوح- الا علاقة بين عضوية الاتحاد القومي- الذي سيصبح سلطة رابعة من سلطات الدولة- وبين " المواطنة " او بينها وبين " حق الانتخاب ". وذلك ليبقى تنظيما جماهيريا للثورة وأهدافها...
ومع ذلك فان الاتحاد القومي قد تم تكوينه على غير هذين المحورين . فقد انتهى الامر بعد سلسلة من القرارات آخرها رقم 1055 لسنة 1959 باباحة عضوية الاتحاد القومي " لكل الناس " فيما عدا المحرومين من حق الانتخاب طبقا للقانون رقم 73 لسنة 1956.
أي أصبح- كما قلنا من قبل- تنظيما لهيئة الناخبين .. ففقد هويته السياسية، وان كان قد احتفظ بهويته الدستورية - وأصبحت الحقوق الدستورية المقررة للاتحاد القومي مباحة لمن يستطيع ان يتولى قيادته او يقترب من قيادته.
لماذا قبل عبد الناصر هذا المسخ لنظريته الديموقراطية؟
سينتظر الجواب النهائي ما يكشف عنه المستقبل من صراعات في مجلس قيادة الثورة ولكنا نستطيع، بدون انتظار ان نقول أن عبد الناصر لم يكن حتى ذلك التاريخ قد حسم موقفه من التناقش بين المفهوم الليبرالي المثالي للديموقراطية والمفهوم الاجتماعي الواقعي للديموقراطية.
ولعل موقف عبد الناصر من الاتحاد القومي كما تشكل فعلا يؤيد هذا الرأي . ذلك لأنه ما ان تم تكوين الاتحاد القومي وأبيحت عضويته " للانتهازيين والرجعيين وعملاء الاستعمار" .. حتى ارتضاه عبد الناصر وانبرى للدفاع عنه . فنجده يعود في يوم 14 نوفمبر 1958 فيقول في بني سويف ، بعد أن كان قد تم تكوين الاتحاد القومي : " هذا هو الاتحاد القومي .. اتحاد يجمع بين أبناء الوطن العربي الواحد. لا انحراف إلى اليمين ولا انحراف الى اليسار.. لا تفرقة.. لا تنابذ.. وانما جمع كلمة من اجل رفعة هذا البلد. جمع الكلمة من أجل رفع راية القومية العربية التي قامت طويلا.. استطعنا بالاتحاد ان ننتصر ونستطيع أيضا بالاتحاد ان نحقق الامال الكبار وان ننتصر أيضا بعون الله... "
ويقول في الاسكندرية يوم 26 يوليو 1959: " وفي نفس الوقت أعلنا جميعا اننا أمة واحدة لا حزبية ولا بغضاء ولا فرقة ولا أحقاد.. قلنا اننا نكوّن اتحاداً قومياً يجمع بين أبناء هذه الجمهورية العربية المتحدة. نبني تحت راية هذا الاتحاد وطننا ونبني تحت راية هذا الاتحاد عزتنا ونبني تحت راية هذا الاتحاد مجدنا ونقيم تحت راية هذا الاتحاد المجتمع الذي نتمناه والمجتمع الذي نعمل من أجله ".

النقد الذاتي:

أيا ما كانت الاسباب التي أدت الى ان يأتي الاتحاد القومي ، في التطبيق، مخالفا بل مناقضا للرؤية النظرية التي صاغها عبد الناصر في دستور 1956، فان عبد الناصر لم يلبث ان انتبه الى أخطاء التجربة وما تهدد به من أخطار.
ولقد بدأ نقد التجربة والافكار التي مهدت لها منذ 22 يوليو 1959 وانصب في البداية على التنببه الى القوى الانتهازية والرجعية التي تغلغلت في الاتحاد القومي ومن قبله هيئة التحرير وأساليبها في النفاق. قال يوم 22 يوليو 1959: " كلنا نعرف وكلنا قاسيا من هذا وسيقابلنا كذلك في الاتحاد القومي انتهازية ولكن علينا وعليكم أنتم الواجب ان تطهروا الاتحاد القومي من الانتهازيين ". وحذر غاضبا في خطابه الى عمال المصانع في بورسعيد يوم 23 ديسمبر 1960 فقال : " ليس الغرض ان احنا نكون في الاتحاد القومي، ان احنا نتعين في مجالس المحافظات او نتعين في المنصب الفلاني . دا دليل على ان نجد ناس لا زالت رواسب الماضي متعلقة بيهم . في الاتحاد القومي او في الحكومة او في كل منصب من المناصب العامة، كل واحد فينا بيؤدي دوره في الخدمة العامة من أجل بناء ترفرف عليه الرفاهية والشخص اللي مؤمن بان عليه دور يؤديه وبيقدر يؤديه في أي مكان وفي أي منصب .. اما الشخص اللي بيعتقد انه ليست الا وسيلة او ليس هذا الا سبيل بحيث انه يتنقل من حته لحته يبقى بيفكر في نفسه وينسى ان هو عضو في المجتمع وعليه أن يعمل من أجل رفاهية هذا المجتمع .. وده أمل الشعب طبعا في الاتحاد القومي وأمال الشعب في الحكم المحلي لأن الشعب اللي انتخب الاتحاد القومي واللي ايد فكرة الحكم المحلي واللي أيد الاتحاد القومي وعمل على تدعيمه واقامته يؤيده لاسباب انه بيعتبر ان آماله ستتحقق عن هذا الطريق ".
ويضرب الرئيس الراحل أمثلة ساخرة ومرة لسباق النفاق الذي كان يعقده الانتهازيون والرجعيون " احتفاء وحفاوة وتأييدا " للثورة وقائدها فيقول يوم 25 نوفمبر 1961 : " بعد سنة 1957 رفع الرجعيون يفط اشتراكيتهم وفعلا هم أصلهم بيكسبوا من زيادة الانتاج . واحد رجعي او رأسمالي مستغل أصلا اقطاعي . تلاقيه عامل جوابات ومعلق يفط الاشتراكية .. وكلام .. ليه ؟ .. طالما الاشتراكية يفط بس هم مبسوطين . طالما الاشتراكية شعارات بس هم زعلانين ليه؟.. ده هم عايزين كده؟.. مستعدين يحطوا شعارات في الاشتراكية اد الي نقولها عشرين مرة . بس ما نحطش الاشتراكية موضع التنفيذ وما نطبقهاش ". وبعد أربعة أيام أي يوم 29 نوفمبر 1961 يعود الى الحديث مرة أخرى عن انتهازية تلك المرحلة فيقول : " أعطيتكم أمثلة في أول الثورة وكيف حاولنا احضار الأقطاعيين لنتفاهم معهم على القضاء على الاقطاع ( أية مثالية؟!!) ولم يمكن وبعد تحديد الملكية أدخلناهم الاتحاد القومي . أنا عارف أناسا كانوا من أشد الناس تحمسا وايمانا في المظهر. ولم أكن أستطيع ان أعرف ان هذا نفاق او غير نفاق . وبعد ذلك في سنة 1954 أنزلوا اليفط ورفعوا اليفط وعلقوا اليفط ونزلوا اليفط ورفعوا الصور وأنزلوا الصور .. هذا الكلام نعرفه جميعا ونعرف لماذا حصل .. نفاقا طبعا.. ".
ويعترف عبد الناصر انه قد بدأ يستشعر الخطر على الثورة منذ عام 1960. فيقول في خطاب 25 نوفمبر 1961: " في سنة 1960 أنا كنت أشعر ان احنا يمكن الدفع الثوري غير قائم . الثورة بدأت تتعثر. الرأسمالية المستغلة بدأت تنفذ وبدأت تتهرب وتتسلل الى الصف . والامثلة كانت أمامي واضحة وكانت أمامي باينة. كان الخطر في ايه؟.. في الرأسمالية المستغلة والرجعية توشك ان تجند الوطنية وتلم الثورة لحسابها الخاص .. في سنة 1960 انا ابتدأت أشعر بالخوف او الخطر من سيطرة رأس المال على الحكم زي ما قلت لكم . مش يعني سيطرة رأس المال على الحكم اني أجيب اللي بيبقوا رأسماليين والمليونيرات ويكونوا وزارة - بأي حال من الاحوال لا. ولكن دول كانوا زمان بيروحوا للوزارة ومعروف انهم بتتعمل وزارة من شركة فلان وده من شركة علان . ابتدأوا دلوقتي ينفذوا الى كبار الموظفين . اللي حصلت مثلا في مديرية التحرير دي تبين فعلا ان فيه خطورة من سيطرة رأس المال على الحكم . لأن كان اللي في الوزارة أصله أستاذ او استاذ مساعد في الجامعة وجه تولى مسئولية بهذا الشكل ثم بعد هذا قبل ان يأخذ رشوة وهو بعد ما بقي وكيل وزارة يبقى الواحد ساعات بيشعر بالقلق والخوف على مصيرنا وناس مشيوا بهذا الشكل ويبقى ده من سيطرة رأس المال على الحكم . لأن رفض انتاج مصانعنا والحصول على منتوجات خارجية رغم اننا في حاجة الى كل مليم من العملة الصعبة دي أيضا بيمثل ان هناك خطراً كبيراً لأن راس المال يريد ان يسيطر على الحكم وينفذ مش قادر يسيطر من فوق اهو بييجي يسيطر من أي حلقة من الحلقات يجدها ضعيفة " (عليك رحمة الله يا عبدالناصر..)..
ثم يعلن عبد الناصر بمرارة لا شك فيها " فشل التجربة " فيقول يوم 26 يوليو 1961: " قلنا نقضي على الاقطاع هل قضينا على الاقطاع ؟.. الاسرة التي بقي لها 200 فدان و 50 لكل ولد من أولادهم كتلوا هذه الارض وأنا أعرف مناطق فيها 300 فدان ملكية لعيلة واحدة ولا زالوا يعتبرون أنفسهم أسياد البلد كما كانوا قبل الثورة ولا زالوا ينظرون الى الفلاحين كعبيد... هل نقبل هذا في عهد الثورة؟..
هل تبقى هناك ثورة وهذا الكلام مستمر ؟.. لن تكون هناك ثورة تسير في الطريق السياسي وتسير في الطريق الاجتماعي لتحقق لهذا البلد ما تصبو اليه من آمال . لنقف ونقول الثورة انتهت وخلصت ونحن سرنا في الناحية السياسية فقط أما الثورة الاجتماعية لا. يقولون لنا ان هذا يؤثر على كفاية الانتاج وكفاية التنمية واتركوا ما فات كما هو. لا يمكن، كيف تكون هناك عدالة؟.. كيف تكون هناك مساواة؟.. كيف تكون هناك حرية؟.. هل الحرية ممكنة او مستطاعة اذا كانت الاموال في يد 5% من الناس والباقيين محرومين..؟.. هل يمكن ان تكون هناك مساواة او تكون هناك عدالة او تكون هناك ديموقراطية اذا كان هناك 95% من الشعب يشتغلون عند 5% من الشعب ؟.. طبعا لا يمكن أبدا ". ويقول يوم 3 ديسمبر 1961: " العملية ليست ادانة بل كما قلت اننا نبحث عن الحقيقة. نريد ان نأخذها من تجربتنا في العشر سنوات وفي السنوات التي كانت قبل الثورة . على أي شيء كانت تدل تجربتنا. هل استطعنا ان نقيم عدالة اجتماعية ؟.. هل استطعنا إن نقيم ما يمكننا من القضاء على الظلم الاجتماعي؟.. هل استطعنا ان نقضي على الاستغلال السياسي والاستغلال الاقتصادي والاستغلال الاجتماعي؟.. أبدا لم نستطع ".
لماذا؟؟ ا!
من المسئول عن أخطاء التجربة؟..
في الاجابة على هذا السؤال تتجلى عظمة الصدق مع الشعب في موقف عبد الناصر. أي أنه لا ينسب الخطأ حتى إلى الانتهازيين والرجعيين ، ولا يحملهم المسئولية، بل يعترف بخطأ الثورة ، وبخطئه، و بمسئوليته..
وقال في خطابه الى الشعب يوم 16 أكتوبر 1961 :
" لقد وقعنا ضحية وهم خطير قادتنا اليه ثقة متزايدة بالنفس وبالغير. لقد كنا دائما نرفض المصالحة مع الاستعمار ولكنا وقعنا في خطأ المصالحة مع الرجعية لقد تصورنا انه مهما كان من خلاف بيننا وبين العناصر الرجعية فانهم أبناء نفس الوطن وشركاء نفس المصير ولكن التجربة أثبتت لنا خطأ ما كنا نتوهمه . أثبتت التجربة ان الرجعية وهي من ركائز الاستعمار لا تتورع عن الارتكاز عليه بدورها لتسلب النضال الشعبي تراثه الاجتماعي . أثبتت التجربة ان الرجعية على استعداد للتحالف مع الاستعمار ذاته لتستعيد مراكزها الممتازة التي تتمكن بها من مباشرة استغلالها حتى ولو أدى ذلك الى ان تمكن له من التحكم من مقدرات الشعوب التي تنتمي اليها . ولقد غير الاستعمار طريقة تسلله الى أرضنا في حين اننا لم نغير طريقة مواجهتنا له. و كنا وما نزال نقاوم أحلافه العسكرية وقواعده بينما كان يتوارى وراء الرجعية وفي قصورها العالية المشيدة من استغلال الجماهير " .
وقال في نفس الخطاب : " ويتصل بهذا الوهم وهم تصور امكان المصالحة مع الرجعية على أسس وطنية. ذلك اننا في الوقت الذي أعلنا فيه ايماننا بامكانية ازالة المتناقضات الطبقية سلميا داخل اطار من الوحدة الوطنية كانت الرجعية تمشي في طريق آخر معاكس . لم تكن القوى الرجعية بمثل طيبة الجماهير وسماحتها ونبلها ولقد رأينا في سوريا كيف تكتلت الرأسمالية والاقطاع والانتهازية مع الاستعمار للقضاء على مكاسب الجماهير ولضرب الثورة الاشتراكية ولاسترداد جميع امتيازاتها ولو بالقوة المسلحة ولو باراقة الدماء ".
وقال في نفس الخطاب : " لقد وقعنا في خطأ كبير لايقل أثرا عن الوهم الخطير الذي نسينا أنفسنا فيه. هذا الخطأ هو عدم كفاية التنظيم الشعبي . في هذا الوقت كله لم تظهر الرجعية بذرة من العرفان تجاه هذه الحرية التي تركت لها من غير استحقاق وانما العكس كان موقفها . فلقد استعملت هذه الحرية لتضرب الشعب ولتخرب ولتدمر ولتنقلب على أهدافه وخططه وأحلامه وتشعل فيها النار جميعا لا تهتم ولا تبالي.. لقد كانت وسيلتنا الى التنظيم الشعبي هي تكوين الاتحاد القومي ليكون اطارا من حول صراع الطبقات .. وكان خطؤنا اننا فتحنا لها الطريق الى الاتحاد القومي تمكنت من شل فاعلياته الثورية وحولته الى مجرد واجهة تنظيمية لا تحركها قوى الجماهير ومطالبها الحقيقية ".
وقال يوم 25 نوفمبر 1961: " وواضح كل الوضوح ان الرجعية أقلمت نفسها والرجعية مشيت في الاتحاد القومي وبعدين مابقناش نقول ان ده رجعي . كنا بنقول والله راجل طيب وماشي . العملية مش فلان راجل طيب. لأن هو في العملية دي بيستغل مثلا عشرة آلاف جنيه ويعمل غدا ويوم الجمعة يعمل فول نابت وشوية عيش بخمسة جنيه ويلم الناس وكل الناس يقولوا ان فلان الفلاني ده راجل طيب. يعني العملية هي استغلال وتغطية للاستغلال . او يدبح دبيحة كل شهر او شهرين ويجيب الناس اللي هو واخد فلوسهم وواخد عرق جبينهم ويوكلهم أكله ويقولوا والله الراجل ده طيب دبح لنا دبيحة. العملية مش عملية حسنة ولا عملية صدقة بأي حال من الاحوال عملية حقوق وعملية واجبات . والله بكل أسف احنا برضه فكرنا في هذه الطريقة وانضحك علينا تمام زي ما نضحك على الفلاحين اللي بيدبحوا لهم الدبايح كل جمعة ويغدوهم او بيعشوهم وقلنا والله فلان ده راجل طيب و فلان ده راجل فيه شيء لله ". وأخيرا قال في نفس الخطاب : " حاولنا نحل بالوسائل السلمية حاولنا نحل في اطار من الوحدة الوطنية ولكن النية كانت من طرف واحد . لأن هناك خلافات سياسية وخلافات جذرية ولقينا الرجعية اما بتستكين حتى تجد الفرصة وبتستكين لغاية الوقت المناسب وبتتزلف وتتملق علشان تحمي فلوسها وبتحمي نفسها ولكن بتستكين للوقت المناسب . ولكن هل نجح الكلام اللي قلناه ؟ .. هل نجح اللي قلناه ان احنا عايزين نحل المتناقضات داخل اطار من الوحدة الوطنية بالطرق السلمية لا ما نجحش . من جانبنا احنا كانت نوايانا يمكن سليمة وكنا بنقول عايزين نعمل محاولة جديدة تبين طيبة الشعب وتبين عمق هذا الشعب الاصيل في الحضارة . ولكن لا يمكن ان يتم عمل بالنية على اتمامه من جانب واحد، أما الجانب الاخر فهو ينتهز وينتظر الفرص المناسبة ".
وفي يوم 29 نوفمبر 1961 يعيد تأكيد نقده للتجربة ويشير الى " نسبية " الاوضاع الاقتصادية وبالتالي يعبر عن نقلة فكرية جديرة التسجيل من التجريد الى الواقعية الاشتراكية فيقول : " وقد رأينا في الاتحاد القومي انه حدث خطأ في التنظيم خطأ تنظيمي وأنا قلت هذا الكلام في أول يوم . الخطأ التنظيمي ان الرجعية والرجعية كلمة نسبية استطاعت ان تتسلل وتبقى لها القيادة في كثير من منظمات الاتحاد القومي. قلنا اننا نريد ان نعطي الفرصة لكل الشعب حتى ينظم نفسه في اطار من الوحدة الوطنية ويحل متناقضاته بالطرق السلمية رحبوا جدا واستطاعوا طبعا لأنهم أقوياء ولهم نفوذ استطاعوا ان يصلوا ويتولوا قيادات الاتحاد القومي . أريد ان أقول لكم انه بعد تحديد الملكية بمائة فدان انا كنت بالامس اطلع على أسماء العائلات وما يملكون من أرض ، العائلات التي عندها مائة فدان توجد عائلة بها 32 شخصا كل واحد يملك مائة فدان وهذا يعني ان الاقطاع موجود طبعا في القرية وهناك عائلات بها 15 و 18 فردا يملك كل منهما مائة فدان . لا نظن اننا قضينا على الاقطاع بتحديد الملكية بمائة فدان ".

على مفترق الطرق:

ومرة اخرى وقف عبد الناصر على مفترق الطرق . ثورة او لا ثورة ؟ ديموقراطية او لا ديموقراطية؟ و اختار الديموقراطية .. ومن أجلها- قاد في مصر ثورة جديدة .. غير انه قبل الحديث عن ثورة عبد الناصر من أجل الديموقراطية ، يتعين ان نعرف لماذا غير عبد الناصر نفسه موقفه من تجربته ذاتها ؟ كيف اكتشف الخطأ ولماذا ثار عليه؟.. لن يكون مصدر الجواب تأملاً فكريا . فقد قلنا منذ البداية ان عبد الناصر كان ينتهج التجربة والخطأ ولم يكن يطبق نظرية مسبقة في الديموقراطية. وقلنا أن عبد الناصر كان يعطي التجربة فكره ويسترد من التجربة أفكارا أكثر نموا ونضجا وتقدمية. كما قلنا ان دراسة عبد الناصر المفكر أكثر صعوبة وأكثر فائدة من دراسة أي مفكر يملك فرصة التراجع عن أفكاره وتصحيحها واعادة صياغتها ، لأن عبد الناصر كان يفكر ليعمل . كانت أفكاره مقدمة مباشرة لوضعها موضع التنفيذ في الحياة العينية . كما قلنا ان دراسة عبد الناصر الثائر أكثر صعوبة وأكثر فائدة من دراسة أي ثائر قصارى جهده ان ينفذ نظرية وضعت له من قبل ..
من هنا فان " الدروس المرة " التي تعلمها عبد الناصر من التجربة تستحق الذكر والانتباه . ربما أكثر من أي جزء آخر من الحديث . ولسنا ننكر ان تلك " الدروس المرة " التي دفع شعبنا العربى في مصر، وجمال عبد الناصر نفسه، ثمنها الفادح ، كانت هي المحرك الاول لرغبتنا في الحديث عن " عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر ".. ذلك لأننا نتحدث عن الماضي من أجل المستقبل ولسنا من هواة كتابة التاريخ او كتابة المذكرات . وليس من بين هواياتنا الكتابة على جدران المعابد، ولو كانت معابد عبد الناصر.. انما هي حياة شعب.. من حقه وهو يشق طريقه الوعر الى المستقبل ان يستوعب دروس الماضي ولو كانت دروسا مريرة . ان يستثمر تجاربه ولو كانت مخطئة.. ان يكون مؤمنا، ولا يلدغ المؤمن من جحر واحد الف مرة..
ولقد وعى الزعيم الراحل دروس تجربته وثار عليها ليصححها، فهل يمكن ان تكون ثمة جناية على شعب أجهده العناء أكثر حماقة من العودة الى ذات التجربة.. التي دفع شعبنا ثمن الخطأ فيها .. لا نعتقد.

************
(11) دروس مرة لمن يريد ان يتعلم

المراهنة على الجواد الخاسر:

كان من بين ما أدركه عبد الناصر ادراكا صحيحا منذ بداية الثورة ، الاهمية الحاسمة لحل مشكلة التنمية الاقتصادية في مصر . وهي حاسمة بالنسبة الى قضية الديموقراطية بوجه خاص . فمهما رفعت القيود المفروضة على حرية المواطن ، سيكون مصير تلك الحرية متوقفا ، في النهاية ، على مدى ما يتوفر لدى كل مواطن من امكانات اقتصادية للحفاظ على حريته اولا ثم لاستعمالها استعمالا ايجابيا ثانيا بدون ان يكون مضطراً لبيعها أو تعطيلها من أجل " لقمة العيش ".. وفي لم لاحقة سيعبر عبد الناصر عن احد الدروس التي تعلمها من مجتمع ما قبل الثورة ... فيقول في الميثاق : " ان حق التصويت فقد قيمته حين فقد اتصاله المؤكد بالحق في لقمة العيش ، ان حرية التصويت من غير لقمة العيش وضمانها فقدت كل قيمة و أصبحت خديعة مضللة للشعب ".
أما في الفترة التي نتحدث عنها فقد عبر عن ادراكه لأهمية التنمية بما قاله في حديثه الى الصحفي الهندي كارنجيا : " انني أريد قبل كل شيء ان أوفر للشعب وخاصة الفلاح والعامل حرية اجتماعية و اقتصادية ". وقال يوم أول اغسطس 1953: " لقد بدأنا بالقضاء على الاقطاع حتى نضمن للفلاحين حقوقهم ونحن نسعى لزيادة الانتاج حتى يستطيع ابناؤنا في المستقبل أن يعيشوا حياة أسعد من التي عشناها ".. وقال يوم 18 مارس 1955: " ولما كانت الديموقراطية تقضي بان الدولة مسئولة عن الوطن والمجموع بدأنا في دراسة المشكلة وقابلتنا في سبيل ذلك مشاكل منها مشكلة التخطيط وكيفية التخطيط فبحثنا ووجدنا ان هذه العملية تستغرق وقتا طويلا جدا وانتهينا من اعداد مشروع السنوات الخمس الاولى وستبدأ السنوات الخمس الثانية فوجدنا ان هذا التوجه يحتاج الى دراسة واحصاءات فبدأنا بتنمية الانتاج القومي وبدأنا في المشروعات التي قيل انها غير مجدية ومستحيلة وبدأ مجلس الانتاج في توفير النقد الاجنبي . والدخل القومي يصل الى 700 مليون جنيه 700 مليون جنيه نستورد منها بحوالي 400 مليون جنيه من الخارج ". ويربط بين مقتضيات التنمية والوحدة الوطنية فيقول يوم 4 اغسطس 1959: " والوطن لازم نبنيه على التعاون وعلى المحبة الذين وجدوا الفر صة والذين لم يجدوا الفرصة. كل واحد وجد الفرصة يشعر أن عليه مسئولية تجاه هؤلاء الذين لم يجدوا الفرصة ليصلوا الى ما وصلنا اليه. نطور مجتمعنا ونعيش في مجتمع سعيد فعلا لأن المجتمع لا يمكن ان يكون سعيدا اذا كانت أقليته تشعر بالسعادة واغلبيته تشعر بعبء الحياة وصعوبة الحياة "..
و لكن،
لما كان مفهوم عبد الناصر في مرحلة ما قبل 1961 التي نتحدث عنها ما يزال مفهوما مثاليا ليبراليا وان كانت تخالطه مفاهيم شعبية واجتماعية ، على الوجه الذي أشرنا اليه من قبل ، فانه لم يدرك، بالوضوح الكافي، ان الديموقراطية الليبرالية التي كان يرفضها ليست الا الوجه الثاني للعملة التي تحمل على وجهها الاول النظام الرأسمالي . القانون الاساسي في كل منهما واحد وهو المنافسة الحرة . وهما لا ينفصلان . فحيث تقوم الليبرالية سياسيا تقوم الرأسمالية اقتصاديا... والعكس با لعكس .. وبالرغم من اتجاهات عبد الناصر ومشروعاته الديموقراطية غير الليبرالية، فانه قد راهن في التنمية الاقتصادية على الجواد الرأسمالي . وخسر الرهان في الحلبتين .. خسره في حلبة التنمية وخسره في حلبة الديموقراطية وتعلم الدرس المر وكان عليه أن يبدأ من جديد...

قضية التنمية الرأسمالية :

بعد اسبوع واحد من قيام الثورة أي في يوم 30 يوليو 1952 صدر القانون رقم 120 لسنة 1952 تعلن به الثورة انها تكفل للاجانب الذين يوظفون رؤوس أموالهم في مصر أن يكون لهم متى أرادوا 51% من مجموع رأسمال الشركة بدلا من 49% أي ان تكون لهم الاغلبية في رأس المال . وبالتالي المقدرة على توجيه أعمال الشركة على الوجه الذي يرونه احفظ لمالهم وأنتج لاستثماره . وتلاه المرسوم بقانون رقم 13 لسنة 1952 بانشاء المجلس الدائم لتنمية الاقتصاد القومي للانتفاع برؤوس الأموال المصرية والاجنبية .
في 15 يناير 1953، قبل مضي ستة أشهر على قيام الثورة صدر القانون رقم 31 لسنة 1953 ليؤجل سداد الضرائب المستحقة اذا طرأت ظروف عامة او خاصة بالممول تحول دون تحصيل الضرائب. وهكذا اطمأن كل الذين تهربوا من سداد الضرائب في المرحلة السابقة والذين يتهربون من سدادها فيما بعد الى انه يكفي ان يكون لدى الواحد منهم " ظرف خاص " لترجىء الدولة اقتضاء حقوقها او تقسيطها. وفي 18 فبراير 1953 وجهت الثورة نداء علنيا في صورة قرار يناشد الهيئات والشركات لاقامة مصانع في مصر . وفي 25 فبراير 1953 تقرر اعفاء المدينين من تعويضات السداد العاجل التي اجراها البنك العقاري الزراعي قبل وبعد عام 1946. وفي 4 مارس 1953 تقرر اعفاء شركات الطيران من دفع الرسوم على الوقود والزيوت وقطع الغيار وأجزاء الطائرات المستوردة . وفي الفترة من 10 مارس الى 16 مارس 1953 صدر القانون رقم 45 بالسماح للتجار والمستوردين باضافة تكاليف النقل الى أسعار السلع المحددة الربح (المسعرة) والقراران رقم 47 و 48 لسنة 1953 برفع نسبة الارباح على أسعار التكلفة الى 15%. ثم صدر القانون رقم 155 لسنة 1953 باطلاق يد شركة الملح والتعدين في المتاجرة في الملح وألغي القانون رقم 100 لسنة 1951 الذي كان يحتم بيع انتاجها للحكومة حتى يصل الى المستهلكين بسعر مناسب وبدون مضاربة على سلعة لا يستغني عنها احد . ثم صدر القانون رقم 66 لسنة 1953 الخاص بالمناجم و المحاجر (التعدين) متنازلا عن شرط الجنسية المصرية في الشركات التي تقوم على استغلال البترول وهو ما كان مشروطا بالقانون رقم 136 لسنة 1948.
ثم جاء القانون العتيد الذي ما يزال يراود أحلام الكثيرين ، قانون استثمار رؤوس الاموال الاجنبية . نعم. لقد كان ذلك اول ما جربته الثورة للتنمية الاقتصادية. صدر ذلك القانون برقم 156 لسنة 1953 وفيه يباح لمن يستثمر أمواله في مصر ، فضلا عن ان يكون له 51% من رأس المال اذا أراد ان يحول أرباحه الى الخارج سنويا وان يحول رأس ماله كله بعد خمس سنوات كما تحول اجور الاجانب الذين يحصلون عليها مقابل عملهم بالمشروعات . وزاد القانون تشجيعا ، بان انشاء إدارة خدمة للاجانب الذين يقبلون استثمار أموالهم في مصر، فنص على انشاء لجنة خاصة باستثمار المال الاجنبي من بين مهامها " تيسير الحصول على تأشيرات الاقامة لرجال الاعمال والخبراء ورؤساء العمال القادمين من الخارج ". ولما كان الاجانب يخطئون بحسن نية او عمدا، في احترام قوانين الاقامة المفروضة من أجل الامن الداخلي ، فان الثورة قد أعفتهم من العقوبة على تلك الجرائم (القانون 181 لسنة 1953) ولما كان النشاط الرأسمالي لا يهتم بدور الطفيليين من السماسرة ، وكان عدم دفع سمسرة اذا كانت الحكومة ذاتها طرفا في الصفقة قد " يسد نفس الرأسماليين " فقد أصدرت الثورة القانون رقم 188 لسنة 1953 بالسماح " بالسمسرة " في التعامل مع الحكومة ومع الشركات ( في 23 أبريل 1953) . والأجانب لا يحضرون!!
ربما لأن القوانين المصرية لا تسمح بالعمل لمن تجاوز سنه الستين فحرمت نفسها من خبرة " عواجيز " الاجانب. اذن ، يصدر القانون رقم 284 لسنة 1953 ، في 15 يونيو 1953 باستمرار تشغيل الاجانب بعد سن الستين . ربما لأن الرأسماليين أجانب ومصريين لا يكتفون بالارباح التي تعود عليهم من الانتاج والمتاجرة وانما يضيفون اليها أرباح المضاربة على أسهم الشركات والسندات في البورصة، وبورصة الاوراق المالية في مصر ليست منظمة. اذن، يصدر القانون رقم 326 لسنة 1953 ( في يوليو 1953) بتنظيم التعامل في بورصة الأوراق المالية وبالمرة كما جاء في المذكرة التحضيرية لأن الحكومة قد شرعت في " تنفيذ قانون تحديد الملكية الزراعية وما قد يترتب على تنفيذ هذا القانون من توافر المال لدى أصحاب تلك الاملاك مما يسهل عليهم توظيف هذه الاموال في القراطيس المالية ". ربما لأن الاجانب يجلبون معهم ويستوردون تباعا بضائع كثيرة ، ومصر تفرض عليها رسوما جمركية في حين انها " للاستعمال الشخصي " وستعود اليهم حين يعودون . " معلهش " يصدر القانون رقم 372 لسنة 1953 ( في 22 يوليو 1953) باعفاء السلع المستوردة على أن يعاد تصديرها بعد ذلك .
لماذا، أيها الاجانب لا تجلبون أموالكم من الخارج لاستثمارها في مصر بالرغم من كل هذه الاغراءات؟
ربما لأن للاجانب أموالا كثيرة هربت من مصر الى الخارج ولو عادت فربما يتعرضون لجزاء التهريب . " المسامح كريم " ويصدر القانون رقم 143 لسنة 1953 بالعفو الشامل عن جرائم التهريب التي وقعت منذ عام 1947 اذا استعادها المهربون في خلال ثلائة أشهر من صدور القانون (صدر القانون في مارس 1953).
لماذا 1947 بالذات؟ لأن تلك هي السنة التي بدأ فيها الصراع ضد الصهيونية فبدأ الاجانب اليهود وغير الاجانب من اليهود تهريب أموالهم الى خارج مصر منذ ذلك الحين . وبالمناسبة كان اول قرار " حراسة " فرضته الثورة يوم 21 فبراير 1953 (رقم 59) على بنك حمصي نظرا لما " تبين من التحريات ان بنك حمصي يقوم بتهريب الاموال الى الخارج وقد ضبط مديره في حالة تلبس بمعرفة النيابة ". ولم يكفوا بعد ذلك عن التهريب الى ان اضطرت الثورة أكثر من مرة الى تشديد العقوبة . وماذا عن الرأسمالية القائمة بعد تشجيع الرأسمالية على القدوم؟
لقد فتحت لهم البورصة وأتيحت لهم السمسرة حتى في تعاملهم مع الحكومة. انهم يريدون من الدولة أموالا.. فلتعط الثورة لعلهم يفلحون . دعم شركات الغزل والمنشآت القطنية (قانون 251 لسنة 1953 في 31 مايو 1953) اعادة النظر في قوانين الشركات السابقة واصدار القانون رقم 26 لسنة 1954 (16 يناير 1954) الذي تقول مذكرته الايضاحية انه صدر " للتيسير على المتعاملين والحرية الاقتصادية ومبدأ حماية حقوق المدخرين لحثهم على الاقبال على الاستثمار والتوسيع على رؤوس الاموال الاجنبية التي تستثمر في مصر فقد اشتمل المشروع على نصوص تكفل لهذا النوع من الاموال ما يغريه بالأقبال و المساهمة الجدية ". الغاء القرار رقم 189 لسنة 1953 بتحديد الاسعار والارباح (قرار رقم 21 لسنة 1954 في 1 فبراير 1954) تعويض فوائد وقيم استهلاك سندات البنك العقاري عن الضرائب التي فرضت من قبل على الارباح التجارية والصناعية (قانون 65 لسنة 1954 في 4 فبراير 1954) . دخول الحكومة شريكة في شركة مساهمة لصناعة الحديد والصلب مع ضمانها لكل من يكتتب حدا ادنى من الربح قيمته 4% وضمان سداد قيمة الاسهم والسندات عند استحقاقها والتعهد بشراء تلك الاسهم اذا أراد أصحابها بيعها، وضمان تحويل قيمتها الى الخارج (قانون رقم 131 لسنة 1954 في 4 مارس 1954) . خفض الرسوم على الرهون العقارية التي تعقد مع البنك الصناعي (قانون رقم 178 لسنة 1954 في 11 مارس 1954) منح 106000 متر مربع أرض مباني بدون ثمن الى شركة التعمير والمساكن الشعبية لاقامة عمارات عليها ( قرار 10 مارس 1954) . بيع الاراضي البور للشركات وكبار المزارعين وأصحاب رؤوس الاموال مقابل 25% مقدم ثمن و يقسط الباقي على 20 سنة بفائدة 3% ولا تبدأ الاقساط والفوائد الا بعد خمس سنوات مع التصريح للمشترين باعادة بيعها بالثمن الذي يحددونه. ضمان شركة الفنادق المصرية لدى صندوق التأمين والادخار لتشجيعها على اعادة بناء فندق شهرزاد ( قانون رقم 311 لسنة 1954 في 10 يونيو 1954 ) ضمان الحكومة للبنك الصناعي ( قانون رقم 298 لسنة 1954 " أغرب من هذا كله الاعفاء المقنع للرأسماليين من الضرائب على الارباح الناتجة عن كل تلك التسهيلات ، وذلك في شكل قانون يقول باتخاذ عام 1947 أساسا لتقدير الضريبة ( قانون رقم 240 لسنة 1954) .

ويقول عالم الاقتصاد الرأسمالي الدكنور علي الجريتلي :

" هذا بالاضافة الى الاجراءات التشجيعية للصناعة وحمايتها . نذكر منها زيادة الرسوم الجمركية على الكماليات بين سنتي 1952 و 1954 الى 100% وعلى الاصناف التي يكفي الانتاج المحلي منها مطالب الاستهلاك بين 20 و 50 %وتكرار حظر استيراد بعض المصنوعات بتاتا وتقييد استيراد البعض الآخر لاتاحة الفرصة لتسويق انتاج المصانع الجديدة ، وعلاج ميزان المدفوعات . ومن جهة اخرى خفضت رسوم الوارد على المواد الاولية والسلع الوسيطة والالات وأعفيت الصادرات الصناعية من رسم الانتاج مع التوسع في منح الدروباك وفي تطبيق نظام السماح المؤقت . وكان من عوامل تشجيع الصناعة الناشئة أيضا تعديل المواصفات الحكومية البالية لتشمل المنتجات المحلية بعد ان كانت تستبعد لعدم استيفاء الشروط العسيرة التي وضعت أصلا لصالح الدول الاجنبية، وأخيرا اقترن التشجيع بانشاء صناديق لدعم صناعات القطن والحرير الصناعي والاسمنت وتشجيع تصديرها وهي تمول من حصيلة رسم الانتاج ورسم الدعم الذي يمثل نسبة مئوية من ثمن المواد الاولية او من المهايا والأجور. ومن ذلك أيضا بيع العملات الاجنبية للشركات الصناعية بسعر الصرف الرسمي المخفض، وحظر تصدير بذرة القطن والقطن الاشموني وبعض المواد الاولية الا بعد الوفاء بحاجة الصناعة المحلية وتكليف المهندسين بالعمل في قطاعات محددة بأجر يقل عن أجر التوازن وتحريم انشاء مصانع جديدة اذا كانت الوحدات القائمة كافية ".
ثم جاء الفيض من " الغنائم ". فعلى إثر العدوان " الانجليزي- الفرنسي الصهيوني " عام 1956 فرضت الحكومة الحراسة على أموال الاعداء بسلسلة من الاوامر العسكرية بدأت برقم 4 لسنة 1956. والحراسة على أموال الاعداء اجراء عادي استعملته مصر لحساب بريطانيا عام 1939 حين فرضت الحراسة على أموال الرايخ الالماني . ومن شأن الحراسة ان ترفع يد أصحاب الاموال عن أموالهم وتديرها لحسابهم الى ان تنتهي الحرب . وهكذا وضعت أموال بمئات الملايين تحت الحراسة ووضع القطاع الاجنبي الرئيسي الذي كان يسيطر على الاقتصاد المصري تحت الحراسة . ولكن القائد المتحفز من أجل تحرير مصر سياسيا واقتصاديا ما لبث ان حول اجراء الحراسة الى عنصر من عناصر التحرير الاقتصادي ففرضت الحراسة في بيع المنشآت الاجنبية والاوراق المالية المملوكة لرعايا الاعداء ، أو من يقيم في البلاد من الأعداء ، للرأسماليين المصريين بثمن تصفيتها أي بعد خصم الديون من الاصول، وبدون اقتضاء الثمن عند البيع ، وهكذا كسبت البنوك المصرية وشركات التأمين والشركات الصناعية والعقارية ثروات هائلة بضربة ثورية واحدة بدون ان تدفع شيئا تقريبا.

الدفاع عن قضية خاسرة:

بكل حسن النية والثقة بالآخرين والآمال غير الواقعية التي تغذيها المثالية، تولى عبد الناصر الدفاع عن التنمية الرأسمالية والاتحاد القومي معاً معبراً بذلك عن وحدة تصوره للأسلوبين ، الاقتصادي والسياسي لحل مشكلة الديموقراطية في مصر. معبراً عن أنه اختار التنمية الرأسمالية من أجل حل مشكلة الديموقراطية واختار الوحدة الوطنية كما يمثلها الاتحاد القومي لحل مشكلة التنمية بدون التفات إلى التناقض بينهما...
ففي خطبة طويلة القيت في الاسكندرية يوم 26 يوليو 1957 دافع عن دور الرأسمالية في التنمية وربط هذا الدور بصيغة الاتحاد القومي وهاجم اليمين واليسار كليهما قال : " ومعركة الانتخابات ظهرت فيها بعض الاتجاهات . كلنا لا بد أن نعرف ما هي هذه الاتجاهات وما هي مصلحتها . ظهر اتجاه يميني يشكك في عملية التمصير وكان يقول اننا نحن المصريين لن نستطيع أن نقوم باقتصادنا بأنفسنا ولا نقدر أبدآ أن نمشي في طريقنا إلا معتمدين على الأجانب وأثبتت الأيام أن هذا الاتجاه خاطىء لأننا كمصريين عندنا القدرة أن نعمل أي شيء . استطعنا أن ندير قناة السويس ونسيرفيها الملاحة وكانوا يقولون أنه لا يمكن للمصريين أن يديروا قناة السويس . واستطعنا أن ندير الاقتصاد والبنوك والشركات الممصرة ولكن الفرق بين اليوم وبين ما مضى أن الأوامر في الماضي كانت تأتي من الخارج واليوم تسير مع الثورة وأهداف مصر لمصلحتك ومصلحة أخيك ، لمصلحة هذا الشعب كمجموعة طبعاً الذين كانوا ينادون بهذه الاتجاهات اليمينية لعلهم كانوا يدافعون عن مصالحهم الشخصية لأنهم كانوا يستفيدون دائماً من هذه المؤسسات. كانت هذه المؤسسات تعطيهم مكافآت لأجل أن تكسب تأييدهم . وظهرت في أثناء المعركة اتجاهات يسارية ظهرت اتجاهات من أجل تحديد الملكية وتحديد الأرض مرة ثانية ومن أجل الاستيلاء على رأس المال الوطني وبعض الصناعات المصرية وأنا غير موافق على هذه الاتجاهات لأننا كثورة اجتماعية وكثورة سياسية لا بد أن تكون ملكية الشعب كله متناسقة . اليوم حددنا الملكية بـ 300 فدان تظهر اتجاهات لتحديد الملكية بـ 150 فداناً بدلاً من أن ننادي بهذه الاتجاهات ننادي بزيادة الأرض المزروعة . إننا فى تحديد الملكية كنا نقضي على الاقطاع وكان هدفنا من القضاء على الاقطاع تحرير الفرد وكان هدفنا من تحرير الفرد إقامة حياة ديموقراطية، الفرد يشعر أن عيشته سليمة ويشعر بأنه مطمئن على مستقبله واعتقد أن هذه الانتخابات اثبتت لكم أن كل فرد كان مطمئنا على مستقبله. كل واحد دخل وأعطى صوته بحرية وطبق الورقة ووضعها في الصندوق بحرص ولم يهدده أحد في حريته ولا في رزقه . اثبتت هذه الانتخابات أن الشعب يستطيع أن ينتخب من يريد بدون النظر إلى الفوارق وبدون النظر إلى الطبقات " . " طبعآ رأس المال الوطني إذا أردنا أن نحافظ عليه لأنه خاص بى وبك وبكل واحد عنده قرش في هذا البلد . هدفنا هو تنمية رأس المال الوطني ولكنا نتبع سياسة رأس المال الموجه ، رأس المال كما قال الدستور يستخدم في خدمة الشعب ولا يستخدم في أغراض تضر بمصالح الشعب ولكن الاتجاهات لا تتمشى مع أهدافنا وقد قلنا دائماً اننا نهدف إلى إقامة مجتمع تعاوني تتعاون فيه جميع الطبقات كل طبقة تعمل على أن ترفع مستواها وتعمل على ان تكون لها حقوقها وفي نفس الوقت تقوم بواجباتها . هذه الثورة ليست ملك طبقة من الطبقات ولكن هذه الثورة ملك الشعب كله بجميع طبقاته. هذه الثورة لن تقضي على الانتهازية إلا إذا قام فيها مجتمع تعاوني يتعاون فيه العامل مع صاحب العمل ويتعاون الفلاح في أرضه مع أخيه وتقوم جمعيات تعاونية للفلاحين من أجل أن يقدروا أن يقوموا بعملهم ، كل واحد يبحث عن مصلحة نفسه وفي نفس الوقت يبحث عن مصلحة أخيه هذا هو السبيل أيها الأخوة وهو الهدف حياة ديموقراطية سليمة و هو الهدف السادس من أهداف الثورة .
وهذا هو السبب الذي من أجله أقمنا الاتحاد الاتحاد القومي وقلنا إن المواطنين جميعاً يكونون الاتحاد القومي من أجل بناء هذا الوطن اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً . لقد مرت بنا خمس سنين إلى الآن ونحن نحتاج إلى تدعيم لنقضي على الانتهازية وننتهي إلى إقامة الحياة الديموقراطية السليمة ".
وفي ختام ذلك العام ألقى في المؤتمر التعاوني المنعقد في جامعة القاهرة يوم 5 ديسمبر 1957 خطاباً قال فيه : " يتضح من هذا كله أننا كدولة نهدف إلى القضاء على الاستغلال والقضاء على الفردية والانتهازية ولكننا لا نسعى لإقامة رأسمالية الدولة ، الدولة تشترك مع الشعب ونعتبر أن لها الولاية وهذه الولاية تضعها موضوع حماية مصالح صغار الرأسماليين وصغار المدخرين مع الرأسماليين الآخرين . ولا نترك صغار المدخرين حتى يقعوا في أيدي المستغلين وحتى يستغلوا أويستخدموا لتحقيق مصالح خاصة لقلة معينة أو لفئة من الناس .. لكن في نفس الوقت نحن لا نريد أن تكون رأسمالية الدولة بل نعتبر أن رأس المال الخاص حر، ما دام يعمل لمصلحة الشعب ويعمل للخير العام للشعب، وفي نفس الوقت نتدخل بمعنى اننا لا نريد أن نقضي أو نصفي الرأسمالية ولكن نرى أن من واجبنا أن نراقبها ونعتبر أن رأس المال الوطني ضرورة لازمة في هذا الوقت من أجل تطور الاقتصاد القومي ولكنا يجب أن نلاحظ دائماً أن رأس المال هذا لا يتحكم في الحكم ولا يسيطر على الحكم من أجل استغلال الأغلبية العظمى لهذا الشعب ".
وفي نفس الخطاب عقد مقارنة مثيرة بين موقفه من الاقطاع وموقفه من الرأسمالية ويلخص- تقريباً- رؤيته لعلاقة كل منهما بالديموقراطية . قال : " وكيف نطبق؟.. طبقناه في القضاء على الاقطاع .. لقد بدأنا الاصلاح الزراعي للقضاء على الأقطاع وكان هدفنا أيضاً إقامة مجتمع ديموقراطي اشتراكي تعاوني ولم يكن هدفنا أبداً أن نقضي على الملكية. الدستور يقول إن الملكية الخاصة مصونة ولكن كان هدفنا أن نحول أجراء الأرض إلى ملاك ، الناس الذين اشتغلوا في هذه الأرض مدة طويلة وآباؤهم وأجدادهم اشتغلوا فيها كذلك كنا نهدف الى تحويل هؤلاء الأجراء إلى ملاك وبهذا نستطيع أن نقيم عدالة اجتماعية ونقرب الفوارق بين الطبقات .. هذه كانت معاملتنا مع الاقطاع .. لم نكن نهدف إلى تحويل ملاك الأرض إلى أجراء ولكن كنا نهدف إلى تحويل الأجراء إلى ملاك .. وبهذا يكون هناك مجتمع اشتراكي ديمقراطي تعاوني .. ولما تدخلت الدولة في الصناعة لم تكن أبداً ترى أن تكون الرأسمالي الوحيد.. كما قلت لكم .. اننا نعتبر الرأسمالية الوطنية ضرورة لازمة لتقويم اقتصادنا وللتنمية وللوصول إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي . و لكن الدولة كانت تتدخل لأنها تعتبر أن لها الولاية وانها مسؤولة عن حماية الأغلبية العظمى من أبناء الشعب ضد استغلال عدد معين وضد الاستغلال الاقتصادي الذي كان مسيطراً علينا قبل ذلك وضد الاستغلال الصناعي الاجتماعي الذي كان مسيطرا علينا في الماضي . تدخلت الدولة في الصناعة لا لتكون هي الرأسمالي الوحيد ولكن لتقضي على الاستغلال ولتعطي الفرصة لكل مواطن مدخر ليشترك في الصناعة وهو مطمئن إلى أن أمواله هذه في أيد أمينة.. والغرض هوعدم تمكين رأس المال لأن يسيطر على الحكم مرة أخرى ويفسده كما سيطرعليه وأفسده في الماضي .
" هل الهدف هو القضاء على الشخصية الفردية؟. عندما نقول أننا نريد أن نقضي على الفردية الانتهازية شيء وعندما نقول اننا نريد أن نقضي على الفردية شيء آخر . لم نقل اننا نريد القضاء على الفردية اننا نؤمن بالفرد وبحرية الفرد وشخصية الفرد وحقه في العمل وحقه في الحركة ما دام هذا يتمشى مع الدستور ومع مصالح الشعب ولكن لا نؤمن أبداً بالفردية الانتهازية أو الفردية المستغلة والنظام الاشتراكي الديموقراطي التعاوني يعمل على الحد من الفردية الانتهازية وتشجيع الفردية الوطنية التي تتعاون من أجل خيرالشعب ومن أجل مصلحة المجتمع ". ان استعمال الرئيس عبد الناصر لتعبير الفرد والفردية وحق الفرد في العمل وحقه في الحركة مؤشر لا يخطيء على المفهوم الليبرالي للتنمية الاقتصادية. وبالتالي يكمل هذا المؤشر دلالة ما أوردناه من قبل كمؤشرات على المفهوم الليبرالي للديموقراطية .

الضحايا :

ولكن، هل نحن نتحدث عن موقف عبد الناصر من مشكلة التنمية الاقتصادية، أو من الرأسمالية، أو من الاشتراكية؟ أم اننا نتحدث عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية؟.. لقد اطلنا في الحديث عن التنمية ومشكلاتها وقوانينها وارقامها وابطالها.. كأننا نريد أن ننتهز فرصة الحديث عن الديموقراطية لنشهر بالرأسمالية. لانستطيع أن نعتذر عن الإطالة.. لأن كل " الأفكار " والمشروعات الديموقراطية التي أولتها الثورة في تلك الفترة عنايتها و جهدها ومالها ، من أول الإصلاح الزراعي إلى الاتجاه المباشر الى الشعب ، إلى محاولات دفعه إلى الممارسة الديموقراطية، الى منحه سلطات دستورية ، إلى مضاعفة اعداد المصريين الذين يتمتعون با لحقوق السياسية ، إلى جعل الممارسة السياسية اجبارية .. إلى آخره، كل هذا أوقف عند خطواته الأولى واجهض من مضامينه وتحول إلى شكل ديموقراطي بفعل " التنمية الرأسمالية "
وكان أول الضحايا، ديموقراطياً ، هم العمال الذين تجاهلتهم الثورة .
أن تجاهل العمال لا يعني أنهم لم يصيبوا شيئاً من المكاسب الاشتراكية في الفترة التي نتحدث عنها. فقد سبق أن اشرنا الى القانون رقم 165 لسنة 1953 بمنع فصل العاملين تعسفياً ، وكان مؤدى ذلك أن للعامل الذي يفصل تعسفياً الحق في أن يلجأ إلى القضاء المستعجل ليحصل على قرار بإيقاف قرار فصله ودفع مرتبه إلى أن يحكم في الموضوع ، ولم يكن مؤاده استمرار العامل في العمل . وإنما نقصد هنا تجاهل العمال كقوة شعبية في مجال الممارسة الديموقراطية وعنصريها اللازمين : الأول : التحرير، والثاني : التشجيع على الممارسة الديموقراطية.
فمن حيث تحرير العمال من التبعية الاقتصادية لأصحاب العمل ، يصدم الانسان حقا حين يلاحظ أنه طوال تلك الفترة أي من 1952 حتى 1961 لم تضف الثورة شيئاً يذكر- فيما عدا ما ذكرنا- إلى القوانين 317 و 318 و 319 لسنة 1952 التي صدرت في الشهر السابق على الثورة . كل المكاسب جاءت في مرحلة تالية. ولكن في تلك الفترة التي نتحدث عنها لم يكسب العمال شيئاً مقارنا لما كسبه الفلاحون .
أما من حيث التشجيع على الممارسة الديموقراطية، فيبين الأمر من موقف الثورة من النقابات العمالية والنشاط النقابي . فحين قامت الثورة كانت نقابات العمال ينظمها القانون رقم 85 لسنة 1942 ( 10/9/1942 ) ولم يكن مسموحاً للعمال الزراعيين أو وكلاء أصحاب الأعمال أو الممرضين أو لموظفي الحكومة إنشاء نقابات وكان مسموحاً للعمال الذين يشتغلون بمهنة أو صناعة أو حرفة واحدة أو بمهنة وصناعات أو حرف متماثلة أو مرتبطة ببعضها أو يشتركون في انتاج واحد أن يكوّنوا فيما بينهم نقابات ترعى مصالحهم وتدافع عن حقوقهم وتعمل على تحسين حالتهم " .
وكان ممنوعا على النقابات استثمار اموالها والاشتغال بالمسائل السياسية أو الفنية وكان مباحا للنقابات في كل مهنة أن تكوّن اتحاداً لها وكانت العيوب الأساسية في هذا القانون- بالنسبة إلى النشاط النقابي- هي أن حق تكوين النقابات كان مقيداً . ولم تكن هناك أية امكانات لبناء نقابي يمثل كل العمال النقابيين ، إذ كان أصحاب كل مهنة يعتبرون- في اتحادهم- طائفة مستقلة عن العاملين بالمهن الأخرى ، ثم حد من تنمية المقدرة المالية للنقابات عن طريق استثمار أموالها، وأخيراً ذلك الحظر المفروض على اشتغال النقابات بالمسائل السياسية وهو يحرم على النقابات كل نشاط يدخل في نطاق تلك الكلمة واسعة الدلالة " السياسية " خا صة دلالتها المحددة : الديموقراطية : فجاء القانون رقم 319 لسنة 1952 الصادر قبل الثورة ( يونيو 1952 ) فأباح للمصريين والعاملين في المستشفيات غير الحكومية تكوين نقابات كما أباحه للعمال الزراعيين وأبقي الحظر مفروضاً على موظفي الحكومة ووكلاء أصحاب الأعمال (المادة1) .
فجاءت الثورة باضافة تتسق غرابتها مع غرابة الاتجاه الرأسمالي فأصدرت القانون رقم 513 لسنة 1954 (30 سبتمبر 1954) بإباحة تكوين النقابات لوكلاء رجال الأعمال . الإضافة الإيجابية الوحيدة كانت في 16 مارس 1955 عندما صدر القانون رقم 143 لسنة 1955 ينص على : في أي وقت يبلغ أعضاء نقابة المنشأة ثلاثة أخماس مجموع عمالها يعتبر الباقون أعضاء في النقابة " . (المادة 5) . وبقي كل شيء على حاله حتى صدر قانون العمل الموحد رقم 91 لسنة 1959. تقول مذكرته الايضاحية إنه تجميع للقوانين التي كانت نافذة من قبل منذ عام 1933 فكأنها لم تضف شيئاً .
ولكننا نلاحظ في شأن نقابات العمال أنه بدلاً من أن يكون من حق كل العاملين في كل مؤسسة على حدة أن يكوّنوا نقابة لتمثلهم في مواجهة رب العمل الخاص بهم ، الغى القانون رقم 91 لسنة 1959 هذه النقابات وجعل من كل العاملين بمهنة أو صناعة واحدة أو بمهن أو صناعات متماثلة أو مرتبطة بعضها ببعض أو تشترك في انتاج واحد أن يكونوا فيما بينهم " نقابة عامة " واحدة ، على مستوى الجمهورية مع التصريح لها بأن تشكل نقابات فرعية في المديريات أو المحافظات كما لها أن تشكل لجان نقابية في المؤسسات المشتغلة بنفس الصناعة أو المهنة إذا كان عدد العمال المنضمين للنقابة في المؤسسة 50 عاملاً فأكثر.
فإذا لاحظنا أن عدد العاملين في المنشآت فقط ( بعد استبعاد الزراعة والتشييد والخدمات) كان عام 1959، تاريخ صدور القانون، حوالي 650000 في حين أن الذين يعملون منهم في مؤسسات تشتغل أكثر من 50 عاملاً لم يكن يزيد عن 250000 ندرك كيف أن القانون رقم 91 لسنة 1959، كان قد حرم 400000 عامل أي ما يقرب من 2/3 من مجموع العمال الصناعيين، من النشاط النقابي .
هذا بالإضافة إلى تركيز القيادة النقابية في النقابة العامة " المركزية " وما يترتب على هذا من إضعاف لمقدرة اللجان النقابية في مواقع العمل . أكثر من هذا ما نصت عليه المادة 170 من أنه " لا يجوز لمن فصل نهائياً من المؤسسة أن يستمر في عضوية اللجنة النقابية لها ". ولما كان الفصل مباحاً ، ولو كان تعسفياً ، إذا أن الجزاء على التعسف هو التعويض النقدي ، وهو عبء يسير على الرأسماليين فقد كان أي رب عمل يستطيع أن يطرد أي عامل نقابي نشيط من اللجنة النقابية بأن يفصله من العمل بعد محاكمته أمام مجلس الإدارة !! (المادة 173) . في مقابل هذا أقر القانون لنقابات العمال بحق أنشاء " اتحاد " يرعى مصالحها المشتركة وبذلك أمكن الغاء تجزئة العمال وبايجاد رابطة علوية تنظيمية واحدة لهم . وكان ذلك من مفاخر الثورة . ولكن لكل شيء وجهين . فإذا كان القانون 91 لسنة 1959 قد أوجد للعمال سلطة مركزية واحدة فإنه من ناحية أخرى قد عرض حركتهم النقابية لمخاطر سيطرة هذه السلطة المركزية أو السيطرة عليها ، خاصة إذا لاحظنا إن هذا القانون ذاته قد نص على تحريم الاضراب ( المادة 180 فقرة 2 جـ ) وهو تحريم ترعاه وتسأل عنه النقابة العامة واتحاد نقابات العمال بشكل مطلق، أي بصرف النظر عن اختلاف ظروف العمل من موقع إلى موقع وما قد يتوافر في موقع ما من مبررات الاضراب.
هذا هو كل ما أصابه العمال وما أصيبوا به في الفترة 1952 إلى 1961. وخلاصته تقوية الحركة النقابية في القمة وإضعافها في القاعدة وهو غير ديموقراطي . وقد برزت أضراره تماماً حين أنشئت وزارة العمل واختير لها من قمة الحركة النقابية وزيراً بعد وزير فأصبح مصب طموح النقابيين هو الالتحاق بالسلطة التنفيذية . هل هو إفساد متعمد للحركة النقابية؟.. لا .. ولكنه أحد النتائج التي لا مفر منها للتنمية الرأسمالية. ان أحد وسائل تشجيع وتقوية الرأسماليين هو إحباط وإضعاف مقدرة العمال. ويستحيل استحالة مطلقة في مصر وفي غير مصر أن تكون الدولة مع مصالح الرأسماليين ومصالح العمال في نفس الوقت وبنفس القدر. لو قبله العمال والفلاحون، وقد يقبلون، فإن الرأسماليين والملاك لن يقبلوا المساواة أبداً .. لسبب بسيط هو أن مصالحهم لا تلتقي مع مصالح الذين يعملون .



الطبقة الجديدة :

قيل عنها- فعلاً- انها طبقة جديدة تلك التي سيطرت على حياة مصر السياسية والاقتصادية في الفترة التي انتهت عام 1961. وأ يقل أحد لماذا هي جديدة . وقد يذهب الظن إلى أنها طبقة نشأت حديثاً ولم تكن موجودة من قبل . ولكنا نعتقد أن مرجع جدتها إلى " غرابتها " إنها ليست طبقة بأي معنى اقتصادي لأن ليس لها موقع من علاقات الانتاج ، إذ انها أصلاً غير منتجة . ولكنها خليط غريب من البشر الذين لاينتجون شيئاً اجتمعوا حول الدولة وفي أجهزتها وتعاونوا جميعاً على امتصاص مواردها. منهم المؤسسة العسكرية التي تصاعدت سلطتها بعد عام 1955 وأصبحت دولة فوق الدولة وامتصت قيادتها قدراً لا بأس به من الدخل القومي فأصبح القادة العسكريون من بين قمم الأثرياء والمترفين والوسطاء في الصفقات المدنية والعسكرية ففسدوا هم أولاً وأفسدوا الحياة ثانياً وادى الأول والثاني إلى هزيمة 1967 فيما بعد . وقد ضربنا مثلاً لذلك القانون رقم 160 لسنة 1962 الذي وضع جهاز الدولة المدني جميعه في خدمة قيادة القوات المسلحة. ولما كان كبار القادة لا يعملون بالتجارة والسمسرة بأنفسهم فقد عملوا بها من خلال زوجاتهم وابنائهم وأقاربهم . ولكن لحسابهم وكان قطاع آخر من كبار القادة أكثر شطارة فغادر القوات المسلحة، خاصة بعد 1956 ، ليشترك في غنائم الحرب فأصبح منهم رؤساء مجالس الادارات والمديريون العامون ومديرو المصانع ، و انتقل و احد من أعضاء مجلس قيادة الثورة ليكون رئيساً للمؤسسة الاقتصادية . هذه طا ئفة .
أما الطائفة الثانية فهم البيروقراطيون . أولئك الذين كانوا موظفين تعساء في دولة راكدة عام 1952 قد أصبحت دولتهم الآن أكثر نشاطاً وتدخلاً ، وأصبحت مصالح الرأسماليين والأجانب والمصريين متوقفة إلى حد كبير على دراساتهم وآرائهم وقراراتهم وتوصياتهم فأصبح عدد كبير منهم يجمعون بين وظيفتين : موظفون في الدولة يتبعونها وموظفون لدى الدولة يتبعون الرأسماليين في الخارج ، ويقبضون من الطرفين ، ويشاركوا الطرف الثاني أن لم يكن بأنفسهم فبواسطة زوجاتهم وابنائهم وأقاربهم . ولكن لحسابهم - وهذه طائفة.
أما الطائفة الثالثة فهم الرأسماليون الذين لا ينتجون إنما يقومون بالأعمال الطفيلية كالوساطة والمقاولة والسمسرة والاستيراد والتصدير لبضائع لا يحتاجها إلا المترفون . ولقد كادت مكاتب الاستيراد والتصدير والوساطة والاستشارة والوكالة التجارية في القاهرة - في تلك الفترة- أن تقارب المقاهي عدداً. وبرز في مصر عدد من الأفاقين الدوليين لم يلبثوا أن أصبحوا من أصحاب الملايين وكان أحدهم- وهو أجنبي - يستورد المأكل والمشرب و" التسالي " لولائمه من مطعم مكسيم في باريس بالطائرة وهي ولائم كانت مقصورة على الطوائف الأخرى السابقة . ثم طائفة أخرى من الكتاب والصحفيين والمثقفين والأنتهازيين الذين قدموا ما يملكون : اقلامهم وصحفهم وعقولهم في مقابل أن يشتركوا في مغانم الطبقة الجديدة فأصبحوا منها . أولئك الذين طبلوا وزمروا لكل كلمة ووافقوا على كل إجراء وصفقوا لكل متكلم وجروا وراء كل فرصة وبرروا كل شيء ..
أما الامتداد الريفي لهذه الطبقة الجديدة فكان يمثلها أولئك الملاك الذين كانوا تابعين للاقطاعيين فاصبحوا هم سادة. خدم الباشوات السابقين ومديرو عزبهم ووكلاؤهم والصف الثاني من أسرهم .
الآن خلى لهم مكان القمة وقفزوا اليه وأصبح اتصالهم بالسلطة مباشراً ، وأصبحوا هم المرشحين في الانتخابات بعد أن كانوا وسطاءها. وآصبحوا هم أصدقاء السلطة المحلية بعد أن كانوا لا يقتربون منها، ولا يقبلون، الا بتوصية من " فوق "..
كل هؤلاء اجتمعوا وتعاونوا وتستر بعضهم على بعض وتبادلوا الهدايا والرشاوي وتجمعهم " مصلحة " واحدة : نهب الدولة من خلال تحقيق ما تأمر به قيادتها . ولما كان نهب الدولة ليس عملية اقتصادية بل هو " سرقة " فاننا لم نستطع أن نفهم كيف أن تلك الطبقة الجديدة إلا من حيث " غرابتها ". ولا شك أن اجتماع طبقة على أن تسرق شيئاً غريباً ، ولكنه حدث في مصر . كان سبب حدوثه تلك الرغبة العارمة في التنمية الاقتصادية التي أخرجت الدولة من سلبيتها وزجت بها في مجال النشاط الاقتصادي ثم اختيار الأسلوب الرأسمالي للتنمية حيث يضع أهداف التنمية في أيدي المضاربين . ثم ضعف الرأسمالية المصرية حيث أصبح هدفها من التنمية هو الاختلاس وليس الانتاج وليس العمل أيضاً .
هذه الطبقة الجديدة عوقت حل مشكلة الديموقراطية وأجهضت مشروعات الثورة من ناحيتين . الناحية الأولى : احتكارها لاتخاذ القرارات أو تشويه القرارات التي تتخذها قيادة الثورة وتوجيهها في التنفيذ إلى ما يتفق مع مصالحها والحيلولة بذلك دون أن تسهم الجماهير الشعبية في اتخاذ تلك القرارات. بمعنى أنها أصبحت طبقة فوق الشعب ، و تحت القيادة ، وعازلة بينهما ، لا تعلم القيادة من إرادة الشعب إلا ما تريد تلك الطبقة ولا يستفيد الشعب في الاتجاه الديموقراطي للقيادة إلا بالقدر الذي تريده تلك الطبقة وفي حدوده . ولما كانت الديموقراطية لا تعني مجرد تعبير الشعب عن إرادته بل تعني أن ذلك التعبير سيصوغ القرارات التي تصدرها الثورة فإن إرادة الشعب أو ما عبر به عنها لم تستطع في أغلب الأوقات أن تخترق هذا الجانب الحاجز الذي أقامته الطبقة الجديدة إلا بعد إعادة صياغته ، كما أن إرادة القيادة التي كانت تحاول جاهدة نسج خيوط اتصالها بينها وبين الشعب لم تصل إلى هذا الشعب الا بعد أن مرت بالحجاب الحاجز فلواها وعقدها. ومن ناحية أخرى فإن هذه الطبقة الجديدة هي التي أفشلت المشروعات الديموقراطية للثورة .
في الريف- كما في المدن- وببساطة، قام الملاك والرأسماليون الطفيليون وأعوانهم من البيروقراطيين والانتهازيين المعششين في أجهزة الدولة أو " المتشعبطين " عليها بتنفيذ المشروعات الديموقراطية. هم الذين اختاروا أعضاء الجمعيات التعاونية الزراعية من خدمهم أو تابعيهم وانضم إليهم المشرفون الزراعيون كممثلين للبيروقراطية ومديرو فروع بنك التسليف الزراعي والتعاوني كممثلين للرأسمالية وسماسرة وتجارة المحاصيل والأسمدة والبذور وعلف الماشية كممثلين للطفيلين ، وسخروا الجمعيات التعاونية لأغراضهم فاستولوا في النهاية على البذور والأسمدة والأعلاف والسلف بأسماء وهمية وضاربوا على احتياجات الفلاحين وحولوا الريف كله إلى أسوأ سوق سوداء فلم يفد الفلاحون مما انشأت لهم الثورة شيئاً يذكر ووجدوا أنفسهم وقد تحرروا من الاقطاعيين وتحصنوا ضد الطرد من الأرض أسرى قوة جديدة لا تمكنهم من زراعة الأرض إلا بعد أن تستنفد طاقتهم وتستولي على محاصيلهم فظلوا كما كانوا- تقريباً- ولو أن السادة قد تغيروا . ثم ان هذه الطبقة الجديدة هي التي أنشأت وشكلت وقادت هيئة التحرير. وهي التي أنشأت وشكلت وقادت الاتحاد القومي (كان أحد إقطاعيي الصعيد عضواً في اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد القومي . أما كيف وصل فلا أحد يدري) هم الذين يجمعون الناس في السرادقات . ليثبتوا للقيادة " كفاءتهم " الجماهيرية وهم الذين كانوا يتركونهم في السرادقات ويندفعون مودعين القيادة حين انصرافها ولا يعودون .

النكوص:

في عام 1960 كان عبد الناصر قد بدأ يدرك أنه قد خسر رهانه على التنمية الرأسمالية وأنه يوشك أن يخسر رهان الديموقراطية أيضاً . ولقد أشرنا من قبل إلى إعلانه بدء استشعاره الخطر على الثورة في ذلك العام .. والفقرات الثلاث الآتية ، من أقواله ، تبين كيف نما ادراكه مخاطر الفشل خلال عامين. بدأها وفيه بقية من أمل وختمها وقد وضع أصبعه على أسباب الفشل . الفشل في حل مشكلة الديموقراطية...
في 9 يوليو 1959 ألقى خطاباً في افتتاح المؤتمر القومي العام للاتحاد القومي دعا فيه بحرارة إلى ضرورة الاستجابة إلى متطلبات التنمية الاقتصادية ، و علق " قيمة " الاتحاد القومي ودلالته الديموقراطية على مدى نجاحه أو فشله في إنجاز هذه المهمة . ويبدو من خطابه ذاته أن ثمة " معوقات " لخطط التنمية وان كان لم يفصح عن مصادرها..
قال : " وعلينا- أيها الأخوة- أن نذكر دائمآ أن ظروفنا لا تتحمل أي تردد أو أي انتظار. ان خطة مضاعفة الدخل القومي في عشر سنوات في الجمهورية العربية المتحدة لابد أن تنجح وينبغي أن تعقبها دائماً خطط متتابعة لمضاعفة الدخل القومي في عشر سنوات أو أقل ، ذلك أنه من المحتم علينا أن نحقق انطلاقة واسعة المدى تجعل تطورنا سابقاً على الزيادة المنتظرة في عدد السكان وإلا فإن كل أمانينا سوف يصيبها الشلل إذا ما كان السبق لزيادة عدد السكان على سرعة النمو الاقتصادي والأجتماعي. كذلك علينا أيها الأخوة في هذا المجال ألا نتصور بحال من الأحوال أن مهمتنا هي الاحتفاظ بالحالة الراهنة. ان أي تنظيم شعبي ديموقراطي يتخيل أن واجبه هو الاحتفاظ بالأحوال كما تسلمها ، إنما يفقد أصالته الشعبية والديموقراطية. علينا أن ندرك بوعي أن مهمة التنظيم الشعبي هي تنظيم الدفع الثوري وتجديد قواه وهي إستمرار الحركة في إطار العقائد القومية نحو مزيد من العدل الاجتماعي . كذلك فإنه من المحتم علينا ألا ننسى أنفسنا. إن القيادات الشعبية يجب ألا تنعزل بأي حال من الأحوال عن قواعدها فإنها إذا فعلت ذلك وقعت في الخطأ الذي يقع فيه من يتصور أن الشجرة الخضراء الكبيرة اليانعة تقدر على الحياة إذا فقدت الصلة بجذورها ومن ثم فإن القيادات الشعبية ينبغي عليها دائماً أن تذكر سر قوتها . ولسوف يبقى الشعب دائماً هو سر القوة الخالدة . كذلك فإنه من أعظم ضمانات بقاء الصلة بين القيادات الشعبية وقواعدها أن تدرك القيادات بوضوح أن القيادة خدمة عامة و ليست انتفاعاً شخصياً .
بعد سبعة أشهر، ينذر بأن خطة التنمية لا بد أن تنفذ ويشير إلى مصدر المعوقات بشكل عام فيسميهم "فئة من الاستغلاليين " دون إيضاح أكثر : قال يوم 22 فبراير 1961: " فخطة تنمية الدخل القومي في عشر سنوات لا بد أن تنفذ لأنها تمثل ارادة الشعب الذي يريد لجمهوريته أن تنمو وأن تتطور، ويمثل إرادة الشعب الذي يريد لأبنائه العمل الشريف والعمل الكريم . أما إذا كانت هناك فئة من الاستغلاليين لا تريد لهذه الخطة أن تنفذ فإننا نقول لهم ان الشعب قد صمم على أن يقضي على الاستغلال السياسي أو الاستغلال الاجتماعي أو الاستغلال الاقتصادي .. "
بعد خمسة أشهر أخرى يعترف بأن مشكلة الديموقراطية ليست مشكلة دساتير وبرلمانات فقط ، وليست مسألة حريات سياسية فحسب ، بل هي- أولاً- مشكلة المساواة بين الناس في المقدرة على ممارسة الحقوق الدستورية والحريات السياسية ، وانه بدون هذه المساواة في المقدرة والتي هي مقدرة اقتصادية بالدرجة الأولى، فإن الأقوياء سيسلبون حرية الضعفاء.. ولا شك انه كان في ذهنه خلاصة تجربته الماضية وما انتهت إليه من سلب حريات الفلاحين والعمال التي صاغها لهم دستوراً وحاول تنفيذها في مشروعاته الديموقراطية .
قال في عيد الثورة التاسع يوم 22 يوليو 1961 : " الديموقراطية أيها الأخوة لا توجد . بمجرد إصدار دستور وقيام برلمان .. الديموقراطية لا يحددها الدستور ولا يحددها البرلمان . بل توجد بالقضاء على الاقطاع والقضاء على الاحتكار والقضاء على سيطرة رأس المال ".
نلاحظ هنا- قبل أن نستطرد- أن عبد الناصر قد ميّز " الأحتكار " كمعوق للديموقراطية وأنه يتحدث عن " القضاء على سيطرة رأس المال ".. ولم يقل كما كان يقول من قبل " سيطرة رأس المال على الحكم ".. ذلك لأنه اكتشف خلال تجربته ان ليس من اللازم لإهدار الديموقراطية أن يسيطر رأس المال على الحكم سيطرة مباشرة ، بل يكفي أن يسيطر على الشعب من خلال علاقات الانتاج السائدة. وهذا واضح من باقي كلماته. استطرد فقال :
" فلا حرية- أيها الأخوة- بلا مساواة ولا ديموقراطية بدون مساواة مع الاقطاع ولا مساواة مع الاستغلال ولا مساواة مع رأس المال . الدستور يهب الحرية والدستور يعطي الديموقراطية ولكن الاقطاع يسلب الحرية والديموقراطية . الاستغلال يسلب الحرية والديموقراطية ديكتاتورية رأس المال تسلب الحرية والديموقراطية . فلا حرية حقيقية ولا ديموقراطية حقيقية إلا بالقضاء على الاقطاع والاحتكار والاستغلال وسيطرة رأس المال " .
جيد.
ولكن ما الذي حدث بالنسبة لخطط وأهداف التنمية؟..

الدرس المر:

ببساطة، لقد خذلت الرأسمالية المصرية عبد الناصر ولقنته درساً لن ينساه ، وعاه وتعلم منه، فبعد ما قدم إليها، وبالرغم من " محاباته " لها على حساب العاملين ، أثبتت له أنها جواد خاسر، فأفشلت، متعمدة، متآمرة، كل مشروعات التنمية، بعد أن أفشلت، متسللة، منافقة كل مشروعات الديموقراطية … وقصة النكوص، وما أسفرت عنه من دروس، تستحق أن يتعلمها كل الديموقراطيين في العالم الثالث النامي، و ليس في مصر وحدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة