من كتاب هل كان عبد الناصر ديكتاتورا 6 - عصمت سيف الدولة
الشعب.. الشعب.. من هو الشعب
يا لصلافة هؤلاء القوم :
منذ عام 1947 كان المهندس، مصري الجنسية يوناني الأصل، أدريان دانينوس يطوف بمشروعه عن " السد العالي " على كل الحاكمين والحكومات والنواب والشيوخ في مصر لعل أحداً منهم يهتم بدراسة مشروعه العبقري . إقامة سد في مجرى النيل جنوبي أسوان يختزن وراءه مياه الفيضان ويتحكم في ما يستخدم منها ولا يسمح لتلك المياه بما كان مسموحاً به : أن تعبر الأرض بسرعة لتصب في البحر الأبيض المتوسط غامرة الأرض التي تمر بها ثلاثة أشهركاملة يتعطل فيها الزرع إلى أن تنحسر. كان مشروع السد العالي يعني- عند صاحبه- استغلال مياه الفيضان المختزنة في استزراع ملايين الأفدنة من الأرض التي تفتقد الري . وتوليد قدر من الطاقة الكهربائية يعوض مصر عما تفتقده من مصادر الطاقة الأخرى : الفحم والبترول.. وبالتالي بفتح الباب واسعاً لامكانات زراعية وصناعية غير محدودة..
بالرغم من ذلك لم يهتم أحد بمجرد دراسة المشروع .
ثم جاءت ثورة 1952 وقبلت ما لم يقبله أحد من قبل : أن تدرس المشروع . وتولى متابعة دراسته واحد من أكثر أعضاء مجلس قيادة الثورة عزماً وحسماً في الطبع والحزم والحسن هو المرحوم جمال سالم . واستعانت الثورة بكل بيت موثوق من بيوت الخبرة العالمية. فلما أن ثبتت صلاحيته فنياً أصبح جانب كبير من أحلام الرخاء في مصر متوقفاً على إقامة السد العالي ، وكان ثمة مشكلة التمويل.. فاتجهت الثورة، كعادتها في السنين الأولى من عمرها، إلى رؤوس الأموال الأجنبية لتغطية نفقات الإنشاء . ولم تلبث أن تلقت عام 1955 عرضآ من الولايات المتحدة الأمريكية بالمساهمة في تمويل إنشاء السد (56 مليون دولار) وانضمت إليها انجلترا (14 مليون دولار) والبنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي تسيطر أمريكا على إدارته (200 مليون دولار) .. وكان على مصر أن توفي بباقي النفقات.
كان ذلك نموذجاً كاملاً لمساهمة " رؤوس الأموال الأجنبية " في حل مشكلات التنمية الاقتصادية في دولة نامية. وكان- على هذا الوجه- محكاً لا يخطىء لمدى صدق هذا النموذج . كما كان فرصة فريدة ليختبر فيها أنصار التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة الأمريكية صحة مواقفهم . و لقد كانت ثورة 23 يوليو في ذلك الوقت ، من بين أولئك الأنصار .
ثم ،
بعد أن استقر الأمر على قاعدة من التفاؤل ، أو كاد أن يستقر، وبدىء في دراسة مراحل التنفيذ تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بشرطين إلى جمال عبد الناصر لتنفيذ ما وعدت به . الأول: الصلح مع إسرائيل . الثاني: إيقاف التعاون مع الاتحاد السوفيتي أي عدم إتمام صفقة الأسلحة التي اتفق عليها في ذلك العام...
قالت جريدة النيويورك تايمز: " إن حكومة الولايات المتحدة تربط بين مقترحاتها بمساعدة مصر في بناء السد العالي وبين تسوية النزاع العربي الاسرائيلي ". وكان هربرت هوفر وكيل وزارة الخارجية الأمريكية أكثر صراحة فقال : " السد العالي مقابل الصلح مع إسرائيل ".. وقال أنتوني ايدن في مذكراته : " كان المطلوب أن يعطي المصريين وعداً.. برفض المساعدات التي تعرض عليهم من المصادر الشيوعية ".
وسحبت الولايات المتحدة عرضها تمويل السد وتبعتها انجلترا، ثم البنك الدولي، وبلغ الخبر عبد الناصر بينما كان مع الرئيس تيتو في رحلة العودة من بريوني فقال تيتو : يا لصلافة هؤلاء القوم ". أما عبد الناصر فلم يفهم الأمر على أنه مجرد صلافة.
قال في 8 مارس 1965: " معركة السد العالي كانت معركة كل واحد فيكم بل كل واحد عربي من أبناء الأمة العربية. كان يعتبر معركة السد العالي معركة العزة.. معركة الكرامة . لما سحب تمويل السد العالي اعتقدوا أن سحب التمويل أن السد العالي لن يبنى . إن إحنا حنركع على رجلينا ونستجدي ونشحت علشان يبنوا السد العالي . إحنا شعب عمره ما ركع على رجليه ولا استجدى ولا شحت . السد العالي علشان ينبني خضنا معارك.. تأميم قناة.. التهديد.. الحصار الاقتصادي . تجميد أموالنا.. العدوان الثلاثي .. الحرب النفسية.. المؤ تمرات .
وكان كل ذلك كافياً ، وأكثر من كاف ، ليتعلم عبد الناصر درساً لن ينساه أبداً .. أن رؤوس الأموال الأجنبية لا تساهم في التنمية الاقتصادية في أي بلد نام إلا طبقاً لشروطها . وإن ليست شروطها كلها اقتصادية.. بل إنه تحت شرط " الاستقرار " اللازم لتحقيق الربح تتدرج عشرات الشروط التي تتصل بصميم حرية الوطن واستقلاله...
بقيت " رؤوس الأموال " الوطنية...
النكوص الغادر:
اتفق عالمان من علماء الاقتصاد أحدهما رأسمالي هو الدكتور علي الجرتيلي والآخر اشتراكي هو الدكتور اسماعيل صبري عبد الله ، على أنه ما إن وافى عام 1961 حتى كان عبد الناصر قد تأكد من أن الرأسمالية المصرية قد نكصت عن وعودها المعلنة وغدرت بالثورة التي دعمتها وشجعتها وأعزتها. ونقول "رشتها " . لتساهم في تنمية اقتصاد " الوطن " .
يقول الأول :
" كانت الحكومة في مراحل التخطيط الأولى تنفذ نصيبها من الاستثمار ولا تملك توجيه الطاقة الإنتاجية في القطاع الخاص . ولم يكن لها سيطرة على أجهزة الانتاج والادخار تكفل التحقق من تنفيذ ما يناهز 1400 مشروع جديد من مختلف القطاعات . ولم يكن في متناول الحكومة الأجهزة الملحقة بها استثمار ما يناهز ثلاثمائة مليون جنيه سنوياً . وبينما كانت الحكومة توجه استثمار فائض الميزانية العادية والادخار الجماعي قي صناديق التأمين والمعاشات لم تكن لها السيطرة على مدخرات قطاع الأعمال في الأرباح غير الموزعة . وهي أهم مصادر الادخار في الأزمنة الحديثة. وكانت الرغبة الملحة في السيطرة على المقدرات الأقتصادية سبب التحول الجذري في التفكير الذي سبق صدور قوانين 1961. بالإضافة إلى إزالة الفوارق في توزيع الثروة والقضاء على الاحتكار. إذ لا يتسنى مع التنمية السريعة في الدول النامية أن تعتمد على مدخرات الأفراد فحسب ، ولا مناص من إزالة التعارض الكامن في قطاع الأعمال المنظم بين الرغبة في توزيع الأرباح أو استثمارها وفق رغبة المنظم وبين ضرورة تدبير المواد اللازمة قسراً أو بطريق الاقناع للاستثمار وفقآ لخطة التنمية . وقد تم ذلك عن طريق التأميم الشامل ".
ويقول الآخر:
" منذ 1955 بدأت الدولة في إنشاء أجهزة التخطيط . وبالذات لجنة التخطيط القومي . ثم تلا ذلك إنشاء منصب وزير دولة للتخطيط . وأخذت هذه الأجهزة في إجراء الأبحاث والدراسات والإعداد للتخطيط الشامل. وفي سنة 1959 بدا أنه من الضروري والممكن البدء فيه . وفي أغسطس 1959 صدر قرار رئيس الجمهورية باعتماد الخطة العامة للدولة للسنوات الخمس 1959/ 1960- 1964/ 1965 كمرحلة أولى في خطة عشرية تستهدف مضاعفة الدخل القومي عن طريق تنمية مناسبة في جميع القطاعات مع عناية خاصة للتصنيع .
" ولكن ما كادت الخطة الخمسية الأولى تأخذ طريقها الى التنفيذ حتى اتضحت بعض الأمور الهامة التي استخلصت منها القيادة الثورية أنه لا يمكن تحقيق أهداف التنمية بدون تغيير عميق في الهيكل الاقتصادي المصري وفي العلاقات الاجتماعية السائدة فيه . فقد أفسحت الخطة الخمسية الأولى في الأصل مكاناً رحيباً للقطاع الخاص وعولت عليه في تنفيذ جزء هام من مشروعاتها مبقية للقطاع العام عبء المشروعات الضخمة قليلة الربح ( السد العالي / استصلاح الأراضي / التعدين / البترول .. الخ) والحجم الذي يمكنه من أن يلعب دوره في توجيه اقتصاد قومي عماده القطاع الخاص . ولكن الرأسمالية الكبيرة أحجمت عن تنفيذ ما ورد بالخطة وأخذت منها موقفاً سلبياً وعملت على حجب مواردها الضخمة عن تمويل التنمية . بل إنه يمكن أن نقول أن موقف الرأسمالية الكبيرة في التنمية قد زاد سوء عما قبل". نلاحظ من هذه النصوص :
أولاً : إن مكان القيادة في الخطة الخمسية الأولى كان محجوزاً للقطاع الخاص وليس للقطاع العام وهو ما يتسق ما أوردناه من قبل في بيان الرؤية الرأسمالية للتنمية الاقتصادية التي كانت تسود فكر عبد الناصر في ذلك الحين . قال في الاحتفال بالعيد السابع للثورة يوم 22 يوليو 1959:
" طبعا في هذا أرى رأس المال الخاص أعطى له الحرية ورأس المال العام الذي هو القطاع العام يدخل لموازنة رأس المال الخاص ولمنعه من السيطرة على الحكم في نفس الوقت الدولة لها ولاية ومسئولية أنا أحمي الصناعة ومنع استيراد المصنوعات الخارجية إذن لازم احمي المستهلك وأفرض واوجد ربحاً لصاحب المال ".
ثانياً : إن القطاع الخاص (الرأسمالية المصرية) قد نكص عن أداء دوره في الوقت الذي كانت الدولة- من خلال القطاع العام والخزانة- تؤدي دورها وذلك لأن القطاع الخاص كان خارج نطاق سيطرة الدولة أو رقابتها . كان متروكاً " لضميره ا لوطني ".. فغدر .
قال ضمن خطاب ألقاه يوم 25 نوفمبر 1961: "... إحنا تركنا رأس المال يعقد الاتفاقات في الخارج ... رأس المال بنوفر له العملة الصعبة.. بنوفر له جميع التسهيلات علشان يعمل . وهو كل اللي يعمله كان بياخد أرباح المصانع .. إيه المخاطرة اللي في مقابلها رأس المال كان بياخد كل هذه الفوائد؟.. مفيش مخاطرة بأي حال من الأحوال . مشروعات طبعاً تحولت إلى أرباح شخصية بعدين لما أعلنا تأميم الشركات البريطانية والفرنسية، من تأميم، أعلنا تمصير.. على طول اتلموا على بعض وتقدموا.. كل واحد فيهم عايز يخبط شركتين ثلاثة من الشركات الممصرة.. سواء اللي أصلها فرنسي أم أصلها انجليزي .. وبعد كده بدا الانحراف.. انحراف ازاي ؟ .. بقى فيه قطاع عام . بقى فيه قطاع خاص. القطاع الخاص عايز يكسب ، الصناعة اللي كانت بـ 2 مليون جنيه بقيت 88 مليون . المباني اللي كانت في 52 بنيناها بـ 5 مليون جنيه تيجي في سنة 1960 الحكومة بتنزل بـ 60 مليون جنيه للعمليات اللي في المشروعات الحكومية اللي لا أول لها ولا آخر. الرأسمالية المستغلة تنفذ وتربح موش الربح الحلال اللي مفروض يكسبوه ، ولكن الربح الحرام . بعض الناس رفضوا آلات جاية من الخارج دافعين فيها عملة صعبة.. في التوريد بيرشوا .. في التصدير بيرشوا.. وفي الاستيراد بيرشوا... لأنه حيحقق أرباح وعايز يحقق أرباح .
ليس إدانة بل حقيقة:
في يوم 3 ديسمبر 1961 تحدث عبد الناصر عن تجربته مع الرأسمالية المصرية فقال : " العملية ليست إدانة بل كما قلت إننا نبحث عن الحقيقة . وإننا نريد أن نأخذها من تجربتنا في العشر سنوات وفي السنوات اللي كانت قبل الثورة . على أي شيء كانت تدل تجربتنا ؟.. هل استطعنا أن نقيم عدالة اجتماعية؟.. هل استطعنا أن نقيم ما يمكننا من القضاء على الظلم الاجتماعي؟. هل استطعنا ان نقضي على الاستغلال السياسي والاستغلال الاقتصادي و الاستغلال الاجتماعي .. أبدآ لم نستطع ".
لماذا؟...
الإجابة من خطاب 25 نوفمبر 1961 قال :
" حاولنا أن نحل بالوسائل السلمية. حاولنا أن نحل في إطار من الوحدة الوطنية ولكن النية كانت من طرف واحد. لأن هناك خلافات سياسية وخلافات جذرية. ولقينا الرجعية إما بتستكين حتى تجد الفرصة، وبتستكين لغاية الوقت المناسب . وبتتزلف وتتسلق علشان تحمي فلوسها، وبتنمي نفسها ولكن بتستكين للوقت المناسب . ولكن هل نجح الكلام اللي قلناه ؟.. هل نجح اللي قلناه إن احنا عايزين نحل المتناقضات في داخل إطار الوحدة الوطنية بالطرق السلمية؟. لا. ما نجحش . من جانبنا احنا كانت نوايانا سليمة وكنا بنقول عايزين نعمل محاولة جديدة تبين طيبة الشعب وتبين عمق هذا الشعب الأصيل في الحضارة.. ولكن لا يمكن أن يتم عمل النية اتمامه من جانب واحد ، أما الجانب الآخر فهو ينتهز أو ينتظر الفرص المناسبة ".
لا يخفى على أحد أن حديث عبد الناصر في هاتين الفقرتين كان مجرد من الانفعال الذاتي وقريب إلى التقرير الموضوعي . لا يدين عبد الناصر الرأسمالية المصرية ولا يشهر بها . كما أنه لا يخاطب عواطفها الوطنية لتعود إلى الصواب كما كان يفعل من قبل ، لقد قبل عبد الناصر أن ينحاز إلى الواقع الموضوعي على حساب التقدير الذاتي وأدت يتعامل مع الحقيقة و لوكانت مرة بدلاً من الغضب عليها.
وكانت أولى الحقائق التي تعلمهاعن الوحدة الوطنية.
الوحدة الوطنية:
لتد عرفنا من قبل أن " الوحدة الوطنية " كانت أحد الاركان الأساسية لحل مشكلة الديموقراطية في مصر ، كما كان يريد عبد الناصر في مرحلة التجربة.. التعامل مع الناس جميعاً بصفتهم مواطنين ثم الوحدة فيما بينهم جميعاً لأنهما وطنيين أو ينبغي أن يكونوا كذلك .
كان اختيار الوحدة الوطنية هو الذي حمل عبد الناصر على استبعاد التعدد الحزبي وهو الذي صاغ له هيئة التحرير إطاراً يجمع الشعب كله في هيئة واحدة ، وهو الذي صاغ له الاتحاد القومي جبهة تضم جميع أفراد الشعب ويكون لكل واحد حقوق سياسية متساوية مع الآخرين ..
والوحدة الوطنية شيء عظيم كعظمة المثل العليا، و طاهر كطهارة الملائكة ولا شك في أن لكل حاكم في الأرض مصلحة في أن تتحقق الوحدة الوطنية على طاعته. وقد يزيد بعض فيدعون إلى الوحدة الوطنية من أجل المحبة والسلام بدلاً من الحقد والصراع .. ولا عيب في هذه الدعوات إلا أنها تتجاهل أن الله جلّت حكمته قد اختار خلفاءه في الأرض بشراً ولم يختر الملائكة . والبشر متفردون كل بمقدرته العقلية والجسدية والمادية . و للبشر احتياجات مختلفة. وللبشر نزوات وأطماع .. فالبشر في الأصل مختلفون قبل أن يتلقوا دعوة الوحدة الوطنية أو قبل أن يثمروا.. وأن أسخف ما في الدعوة إلى الوحدة الوطنية على الاطلاق هو تجاهل أو إنكار أسباب الخلاف والفرقة والصراع بين الناس . إنها حينئذ تبدو ساذجة إلى حد الطفولة. إذ لماذا ندعو الناس إلى الوحدة الوطنية إذا لم يكونوا في الأصل مختلفين متفرقين متصارعين؟ ..
إذن فالدعوة إلى الوحدة الوطنية، تفترض الخلاف أصلاً . حينئذ يكون من الكلام الذي لا معنى له أن ندعو الناس المختلفين أصلاً إلى الوحدة الوطنية أو تحملها عليها حملاً ، بدون أن تبين ما هو على وجه التحديد " الموضوع " الذي يجب على الناس أن يتوحدوا عليه..
في مرحلة الصراع الوطني من أجل التحرير، أي حين يكون" الوطن المشترك " في خطر، حين يكون " بيت العائلة " مهدداً بالأغتصاب ، تكون الوحدة الوطنية لازمة بمعنى لازمة؟.. إن لكل فرد، لكل مواطن، مصلحة مؤكدة في إنقاذ الوطن ورد العدوان عليه. وتكون للوحدة الوطنية أولوية على الخلاف بين الناس . لماذا؟ لأنه مهما تكن الآراء أو المصالح داخل الوطن فإن لكل فريق من المختلفين مصلحة مؤكدة في حماية الوطن ، لأن ذلك يمثل الحد الأدنى من الأمل ، أي أمل في أن يسوي خلافاته الداخلية الوجه الذي يرضيه. من هنا فإن البشر، في كل أطراف الأرض يؤجلون خلافاتهم الداخلية " ليتحدوا " من أجل الانتصار على عدوهم المشترك الذي يهدد وطنهم .
وكانت تلك دعوة مبررة في مرحلة التحرر الوطني.. فكانت الوحدة الوطنية في صيغة هيئة التحرير مبررة.
في المرحلة التالية، مرحلة الاتحاد القومي، حيث كانت الوحدة الوطنية مطلوبة من أجل التنمية كان الأمر مختلفاً . التنمية هي في النهاية عائد الانتاج والتقدم نحو الرخاء . هنا نكون قد اقتحمنا تناقضات المجتمع من الداخل ، ويكون لكل فرد سبب مشروع في أن يتطلع إلى نصيب من العائد القومي متكافىء مع ما أسهم به في تحقيق هذا العائد القومي . قال عبد الناصر يوم 6 أكتوبر 1961: " إنه لا بد أن يكون الدخل القومي شركة بين المواطنين ، وبدونه، وبدون ضمان عدالة التوزيع على الأساس الصلب المتين لا يعد الدخل القومي شركة بين المواطنين .. كل بقدر جهده الحقيقي لتحقيق هذا الدخل القومي"...
هل يمكن أن تتحقق الوحدة الوطنية في هذه الحالة؟.
نعم ،
و لكن على أن يكون مضمونها " التنمية القومية وعدالة توزيع العائد القومي " أو " الكفاية والعدل " ذلك التعبير الذي تلقنه عبد الناصر من دروس التعامل مع الرأسمالية المصرية التي نكصت عن تنفيذ نصيبها في التنمية لتحتفظ بأكثر من نصيبها في العائد القومي.. هذه الوحدة الوطنية تكون ممكنة بقدر التزام جميع الأطراف بها . إذ لا يمكن أن يطلب من طرف واحد أن يدفع ثمن الوحدة الوطنية ويتحمل أعباءها بينما الطرف أو الأطراف الأخرى لا تلتزم إلا بأهدافها الخاصة.. وإلا فإن الدعوة الى الوحدة الوطنية والمحبة والسلام وعدم الحقد تكون في النهاية دعوة موجهة إلى المظلومين ليقبلوا بوضعهم المتدني ويحبوا ظالميهم ويهادنوا مستغليهم .. أو ليكونوا ملائكة مطهرين من عواطف الغضب والكراهية.. وهو مستحيل..
هل للشعب مصلحة في الوحدة الوطنية ؟
لا شك في هذا . كل أفراد الشعب لهم مصلحة في الوحدة الوطنية والمحبة والسلام حتى أولئك الذين سيكونون مطالبين بالتخلي عن بعض مصالحهم . ذلك لأنه مع وجود التناقضات الموضوعية بين الناس يكون الناس بالخيار بين أمرين . إما حل تلك التناقضات سلبياً ، وهوما يعني أن على بعض الأطراف أن تتخلى عن بعض مصالحها. وإما أنها ستحل بغير الطريق السلمي ، المدمر والمعوق لكل الأطراف. قال عبد الناصر في افتتاح المؤتمر العام للاتحاد القومي يوم 9 يوليو 1965 . " ولقد كان تقديرنا أن حماية المصري الوطني إنما تتوقف على الشعب باعتباره التيار الدائم المتدفق الخالد الذي لا ينتهي ولا يحول، وكان أمامنا - مثلاً- أيها الأخوة المواطنون - طريق تعدد الأحزاب . و لكن الأحزاب لا يمكن أن تكون إلا تعبيرا عن أوضاع إجتماعية و على هذا الأساس فإن تعدد الأحزاب في بلدنا مع ازدياد الفوارق بين الطبقات ووجود تخلف يحدد للدخل القومي نطاقه في نفس الوقت سوف يصنع هوة سحيقة بين الأحزاب ولا سبيل إلى اجتيازها . كما أنه في محاولة القلة التي تملك الاحتفاظ بما تملكه وفي محاولة الكثرة التي لا تملك الفرصة المتكافئة أن تستعيد حقها يصبح الصراع الدموي أمرا محتما باعتباره الطريق الوحيد إلى التغيير. ثم يكون ما يستتبع ذلك من الناحية الخارجية حين يحاول الذين يملكون أن يجدوا السند من خارج بلادهم كما يحاول غيرهم أن يواجه هذا السند الخارجي بسند خارجي مضاد له . هكذا يصبح الوطن ميدانا للحرب الأهلية بين أبنائه على أسوأ الظروف أو يصبح ميداناً للحرب الباردة بين الكتل الخارجية دون أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام ...
وما العمل إذا اختارت طبقة مصالحها على حساب الوحدة الوطنية ؟ .
لقد كان ذلك هو السؤال الذي واجه عبد الناصر وهو يرى تجربته كلها مهددة بالانهيار بعد أن خذلته الرأسمالية المصرية التي وثق بها وبنى خططه للتنمية على أساس من تلك الثقة . وتجاهل العمال لفترة طويلة إرضاء لها ، وابتكر لها هيئة التحرير والاتحاد القومي ليفسح لها المكان الذي احتلته وأصبحت به سيدة التجربة الأولى لحل مشكلة الديموقراطية في مصر.. سيطرت على المؤسسات الشعبية واستغلت النشاط الاقتصادي للدولة ثم نكصت عن تحمل نصيبها في أعباء التنمية.. أي فتكت بكل معنى من معاني الوحدة الوطنية.
ولم يكن الجواب سهلاً . وهو لا يكون سهلاً على أي حاكم يجد نفسه في موقف الاختيار بين السلبية حيث متسع الرئاسة و بين الإيجابية حيث متاعب المسئوليات . وهو لا يكون سهلاً على أي حاكم يختار الإيجابية فيكون عليه أن ينحاز إلى جانب من قوى الصراع الاجتماعي الذي لم يعد منه مفر . ويصبح اختياره هو المحك الحقيقي الذي لا يقاربه أي محك اخر في الكشف عن ديموقراطيته . ذلك لأنه ، في هذا الموقف الصعب يكون مطالباً بأن يختار بين القلة القوية القادرة المحيطة به، وبين الأغلبية المستضعفة العاجزة البعيدة عنه. ولقد قلنا في أكثر من موضع من هذه الدراسة أن الديموقراطية ليست كلاماً عاطفاً على الشعب ، بل موقفاً منحازاً إلى أغلبية الشعب يتجمد في نظام يحمي و ينمي مصالح أغلبية الشعب .
ولقد كان عبد الناصر حين واجه هذا الاختبار لأول مرة عام 1960 ، كما قال ، قد بلغ الذروة كحاكم وزعيم وقائد . وكانت الجماهير العربية في مصر والوطن العربي قد أسكنته قلوبها حباً وكانت الرأسمالية المصرية، والعربية أيضاً ومثقفوها وكتابها وصحافتها قد ارتفعت به إلى أقرب مكان القداسة. فهو البطل، وهو الملهم وهو المعلم وهو الزعيم.. ومع ذلك فإن عبد الناصر قد أدرك منذ عام 1960 أنه مطالب بأن يجيب على سؤال يفرضه الواقع التاريخي : لقد استغلت الرأسمالية المصرية الوحدة الوطنية لمصلحتها وأثارت بذلك أسباب الصراع الاجتماعي حول المصالح المتناقضة فإلى من ينحاز؟.. هل يلوذ بالذروة التي وصل إليها يصطنع الحياد؟ أم ينحاز إلى الأقلية التي سيطرت وتحكمت وهي في مركز القوة من دولته؟ أم ينحاز إلى الأغلبية الغائبة بما يعنيه ذلك من صدام مع ذات القوى التي تسبب هو في صعودها إلى مراكز القوة؟..
و لقد اختار عبد الناصر. وكان اختياره واحداً من المواقف الفذة في تاريخه وتاريخ الحكام قاطبة... أختار أن ينحاز إلى الأغلبية، أغلبية الشعب، ضد ذات القوى التي مكن لها من قبل.. أو- نقول- اختار الانحياز إلى أغلبية الشعب ضد نفسه. انحاز عبدالناصر 1961 ضد عبد الناصر 1952.
قال عبد الناصر في خطاب وجهه إلى شعب الجمهورية العربية المتحدة يوم 16 أكتوبر 1961: لقد قضيت الأيام الأخيرة كلها أفكر. وكنت بمشاعري مع شعبنا العظيم في كل مكان . في القرى وفي المصانع وفي الجامعات . وفي المعامل وفي المواقع الأمامية في خط النار لمواجهة العدو مع جنودنا وفي البيوت الصغيرة المضيئة بالأمل في مستقبل أفضل . كنت مع هؤلاء جميعاً ، مع الفلاحين والعمال والمثقفين والضباط والجنود أحاول أن أتحسس مشاعرهم وأن أتفاعل بفكري مع فكرهم . كانت أصابعي على نبض هذه الأمة صانعة الحضارة صانعة التاريخ صانعة المستقبل . وكانت أذناي على دقات قلبها الذي نبض دائما بالحق والخير والسلام . كنت أريد أن يكون اختياري صدى لاختيارها وكنت أريد أن يكون موقفي تعبيراً عن ضميرها وأقول لكم الآن - أيها المواطنون - لقد اخترت باسم الله ، باسم الأمة، باسم آمالها، باسم مثلها العليا، باسم كل المعاني التي قدستها ، باسم كل المعارك التي حاربتها ، باسم هذا كله كان قراري وكان اختياري : أن طريق الثورة هو طريقنا.. ان الاندفاع بكل طاقة إلى العمل الثوري هو المفتاح الوحيد لكل مطالب نضالنا الشعبي وهو الوفاء الأمين بكل احتياجات جماهيرنا المؤمنة المصممة على الحرية بكل صورها الاجتماعية والسياسية "
الشعب.. من الشعب؟
كان ذلك إعلاناً عن ثورة التصحيح التي فجرها عبد الناصر في مصر العربية والتي سنتحدث عنها، فيما بعد. نكتفي الآن بأن نشير إلى أن دروس التجربة التي وعاها عبد الناصر، وخاصة استحالة الوحدة الوطنية على أن يستغل الناس بعضهم بعضا، قد قفزت بمفهومه للديموقراطية إلى مستوى أكثر تقدماً بكثير مما كان من قبل . وفي هذا الصعود النامي لمفهومه للديموقراطية واجه وحسم موقفه من واحدة من أخطر وأعمق قضايا الديموقراطية.
ولقد طرح عبد الناصر هذه القضية وموقفه منها طرحآ قوياً على الرأي العام في مصر حينما أعلن يوم 25 نوفمبر 1961 شعاراً يقول : " كل الحرية وكل الديموقراطية للشعب ولا حرية ولا ديموقراطية لأعداء الشعب؟.
نستطيع أن نقول إن هذا الشعاركان صدمة للمفاهم السائدة ، حينئذ ، عن الديموقراطية وعن الشعب، لم يستطع كثيرون امتصاص آثارها . وبقي الشعار إلى وقت طويل وربما إلى الآن غير مفهوم تماماً من كثير ممن يعنون بمشكلة الديموقراطية فكراً أو تطبيقاً . كان المفهوم السائد أن الشعب هو جماع المواطنين المنتمين إلى الدولة. وأن الديموقراطية نظام عام لا يفرق بين المواطنين . وأن التفرقة الوحيدة المقبولة ديموقراطياً بين أبناء الشعب الواحد هي التفرقة ما بين الأغلبية والأقلية . اما أن يكون هناك من بين ذات الشعب شعب وأعداء للشعب وأن تكون الديموقراطية نظاماً مقصوراً على من يسمون الشعب محجوبة عمن يسمون أعداء الشعب فهو أمر كان يبدو غريباً ومتناقضاً . وكان المصدر الأساسي للتناقض والغرابة فيه هو أنه يثير سؤالاً أولياً يبدو غير قابل للإجابة الديموقراطية : من هو الذي يملك الحق في أن يعين الشعب وأعداء الشعب ويفرز بينهما ومن الذي أعطاه هذا الحق؟.. أوكيف يمكن هذا التعيين؟.
ومع ذلك فإنه بمجرد أن نتحرر قليلاً من أسر المفاهيم الليبرالية التقليدية ونواكب التطور الفكري والتطبيقي الذي أصاب مفهوم الديموقراطية في العالم كله نتبين بوضوح أن عبد الناصر لم يفعل شيئاً إلا أنه تبنى موقفا أكثر تقدمية من المواقف السائدة . وقد تبين بوضوح أيضاً غرابة وتناقض المفهوم العام المتجانس النمطي لكلمة " الشعب ".
إن علم السياسة والنظم السياسية وعلمائه، لم يختلفوا قط في وجوب التمييز بين " الشعب الاجتماعي " و بين " الشعب السياسي، يعنون بالشعب الأول كافة الذي ينتمون إلى الدولة. و يعنون بالشعب الثاني " كل من يتمتع بالحقوق السياسية في الدولة " . الشعب الأول تحدده شروط اكتساب الجنسية (الهوية) . الشعب الثاني تحدده شروط اكتساب الحقوق السياسية.
ويزعم جان جاك روسو في مؤلفه " العقد الاجتماعي " أنه أول من فطن إلى هذه التفرقة. قال في هامش أضافه إلى الفصل السادس من الكتاب الأول من مؤلفه المذكور، وهو يتحدث عن نظام " المدينة " الاغريقية الذي يعتبرونه نموذجاً للديموقراطية ، إن " المدينة " بمعناها السياسي تعني الوطن والانتساب إليه يعني أن لصاحبه حق المساهمة في إدارة شئون المدينة فهو " مواطن " أما " المدينة " بمعناها المدني فتعني محل الاقامة .
ولا يطابق الشعب الاجتماعي الشعب السياسي . لم يتطابقا قط ولا يتطابقان الآن في أية دولة وفي أي مذهب. يكفي أن نعرف - مثلاً- أن الشعب الاجتماعي في مصر العربية يبلغ 37 مليوناً وأن الشعب السياسي بمفهومه البسيط (حق الانتخاب) لا يبلغ عشرة ملايين . ومع ذلك فإن كل من وصل إلى مقعده عن طريق الانتخاب لا يفتأ يذكر الناس بأنه منتخب من الشعب أو أنه يمثل الشعب . حتى أولئك الذين لم ينتخبهم إلا بضعة آلاف في إحدى الدوائر الانتخابية لا يجدون حرجاً في أن يزعموا أنهم يمثلون الشعب.
ولقد كانت الديموقراطية الليبرالية، وما تزال، نظاماً جانحاً إلى الحد من الشعب السياسي . عندما بدأ الاصلاح الديموقراطي في انجلترا عام 1832 كان عدد الناخبين لا يزيد عن 400000 ناخب من بين عشرة ملايين مواطن تقريباً . وبالرغم من توالي الاصلاح الديموقراطي في عامي 1868 و 1884 فإن حق التصويت، أبسط الحقوق السياسية، ظل في انجلترا- قلعة الديموقراطية الليبرالية- مقيداً بشروط مالية حتى 1918 ولم يصبح للنساء حق الانتخاب إلا في عام 1928، وبقي نظام الانتخاب على درجتين حتى عام 1948.
وعندما قامت الثورة الفرنسية الليبرالية وأصدرت أكثر الدساتير ديموقراطية في تاريخ فرنسا (دستور 1973) لم يزد عدد " الشعب السياسي " عن 7 مليون من بين الشعب الاجتماعي الذي كان يبلغ خمسة وعشرين مليوناً تقريباً . ولم يرض هذا التوسع الديموقراطي أغلبية قادة الثورة فلم يطبقوا الدستور ووضعوا بدلاً منه دستور يقول التقرير الذي صاحبه : " يجب أن يحكمنا الأفضل علماً والأكثر اهتماماً بالمحافظة على القوانين وهؤلاء لا يوجدون إلا بين الملاك ".. ومع اشتراط الملكية مناطاً للحرية السياسية هبط عدد الشعب السياسي في فرنسا الثورة الى " نصف مليون ..
وهكذا، في كل المجتمعات في كل مراحل التاريخ ، في كل المذاهب ، لا يكون لكلمة " الشعب " دلالة واحدة. وتكون دلالتها السياسية أكثر حصراً وضيقاً من دلالتها الاجتماعية و في مصر العربية حين أطلق عبد الناصر حق الانتخاب من كل القيود تقريباً . وضاعف عدد من لهم الحقوق السياسية بقيت أغلبية الشعب الاجتماعي خارج نطاق الممارسة الديموقراطية.. و يكفي أن نتذكر أن كل مصري لا يبلغ 18 عاماً لا يكون منتميا الى الشعب السياسي ..
إذا كان ذلك كذلك فما الجديد في موقف عبد الناصر عام 1961؟.. وما هي دلالة كل الحرية وكل الديموقراطية للشعب ولا حرية ولا ديموقراطية لأعداء الشعب ؟...
قال عبد الناصر يوم 25 نوفمبر 1961: " سنعمل اشتركية .. الاشتراكية حياة ، الاشتراكية عدالة اجتماعية، والعدالة الاجتماعية معناها أنني أخذت من الغني وأعطيت الفقير وأعدت توزيع الثروة . في إعادتي لتوزيع الثروة من هو الشعب؟.. هو عبارة عن جميع الفئات التي تساند الثورة الاشتراكية وتساند الثورة الاجتماعية والبناء الاشتراكي . إذن أما نيجي النهاردة ونقول كل الحرية للشعب وكل الديموقراطية للشعب لازم احدد وأفرز وأخصص ايه هيه قوى الشعب العاملة ، إيه هو الشعب؟ من هو الشعب اللي الثورة الاجتماعية تعمل من أجله ومن هم أعداء الشعب ؟ ..أعداء الشعب هم جميع القوى والجماعات التي تناهض هذه الثورة الاشتراكية والثورة الاجتماعية واللي هدفها طبعاً القضاء على هذا النظام الاشتراكي والعودة إلى نظام رأسمالي أو مستغل أو نظام مبني على أساس ديكتاتورية رأس المال".
هذا موقف واضح . يوجد بين الديموقراطية والاشتراكية مضمون قوي ويأخذ من المضمون الاشتراكي مقياساً موضوعياً لفرز الشعب ( له مصلحة في الاشتراكية) من أعداء الشعب (أعداء الاشتراكية).. فتكون كل الحرية والديموقراطية للشعب.. ولا حرية ولا ديموقراطية لأعداء.. الاشتر اكية.. هذا المعنى التوحيدي كان عبد الناصر قدعبر عنه تعبيراً بليغاً في 9 يوليو 1960 حين قال : " هناك اتصال عضوي بين الاشتراكية والديموقراطية حتى ليصدق القول بأن الاشتراكية هي ديموقراطية الاقتصاد وأن الديموقراطية هي اشتراكية السياسة ".
ومع ذلك فإن هذا الموقف الديموقراطي الواضح الذي اتخذه عبد الناصر لم يجد طريقه إلى الواقع . قد تكون في هذا مفارقة ومع ذلك فما أكثر المفارقات في تاريخ عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر.. ولقد جاءت الثغرة من أن عبد الناصر في عام 1961 أيضاً ، وحتى بعد أن تحددت أفكاره الخاصة عن الديموقراطية، لم يشأ أن يفرضها.
مسمار جحا:
نعرف كلنا قصة جحا الذي باع منزله إلا مسماراً في حائط . وما زال يطالب بحق رؤية مسماره ويقتحم المنزل الذي باعه حتى " طفش " السكان وتركوه له فاسترده . مثل هذا حدث في مصر عام 1961 أعني أن قد ترك لأعداء الشعب مسمار في منزل الشعب .
كيف؟
حينما كان عبد الناصر يعلن تلك الأفكار المتطورة عن الديموقراطية كان قد بدأ ثورة التصحيح التي قضت على الرأسمالية المصرية الكبيرة وأضعفت ما بقي من نشاط رأسمالي بسلسلة من القوانين التي صدرت يوم 21 يوليو 1961.. وأصبح واضحاً أن الذين اضروا بتلك القوانين يدخلون في تعريف عبد الناصرلاعداء الشعب..
و لكنه حين أراد أن يصوغ أو يعيد صياغة النظام ديموقراطيا ، لم ينفرد بالأمر كما انفرد باصدار القوانين الاشتراكية . لم يصدر الميثاق مثلاً (صدر عام 1962) . ولم يعدل الدستور مثلاً ( عدل سنة 1964) . ولم يغير قانون الانتخاب مثلاً ثالثاً (عدل عام 1962) بل أصدر يوم 25 نوفمبر 1961 قراراً (رقم 1789 ) بتكوين لجنة جمعت الخلاصة المثقفة وأصحاب الحكمة وأساتذة الجامعات ورجال الدين والكتاب والصحفيين تحت اسم " اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية ".. وطرح عليهم خلاصة فكره الذي أوردنا خلاصته وكان عليهم أن يحددوا طبقاً لمقياس موضوعي من هم الشعب ومن هم أعداء الشعب ..
وظلوا يتحاورون ويتنافسون أكثر من شهر كان عبد الناصرخلاله محل محاكمة فكرية بالغة الصراحة والجرأة من بعض الأعضاء. لم يضق بها يوماً ثم تركهم يقررون ما يرون . فانتهوا - طبعاً - إلى أن أعداء الشعب هم أعداء الثورة الاشتراكية . وهكذا أخلي البيت من الرأسماليين الذين أضيروا- على الأقل- من القوانين الاشتراكية. ولكن جزءاً كبيراً من أعضاء اللجنة أنفسهم كانوا من الرأسماليين الذين أضيروا مباشرة أو بطريق غير مباشر من القوانين الاشتراكية ( لم يكن قد تقرر العزل السياسي بعد). فماذا يفعلون " لتمييع " مفهوم أعداء الثورة الاشتراكية؟.. أضافوا مقياساً آخر للشعب . كان المقياس الأصيل كما طرحه عبد الناصر : الذين لهم مصلحة في الثورة الاشتراكية.. جاء المقياس المضاف : من يساهم في الدخل القومي .. وبنسبة مساهمته. وما لبثوا أن قدموا من الاحصائيات المأخوذة عن الفترة السابقة ما يثبت أنه طبقاً لقيمة الاسهام في الدخل القومي والأهمية النسبية اقتصادياً والنسبة العددية يمثل الفلاحون 27% . والعمال 21% . والرأسمالية الوطنية 11% . وأعضاء النقابات المهنية 14% والموظفون 11% وأعضاء هيئة التدريس 6% والطلبة 5% والنساء5% من الشعب .. أما من عدا هؤلاء فهم أعداء الشعب !! .
على هذا الأساس ، اختفى مقياس أعداء الثورة الاشتراكية ، وعليه قام نظام الـ 50% على الأقل للعمال والفلاحين . وبه احتفظت الرأسمالية المصرية ومثقفوها والبيروقراطيون ، كل منهم ، " بمسمار جحا " في بيت الديموقراطية الجديد.. وهنا لن يدرك عبد الناصر مخاطره إلا بعد فوات الأوان ..
(13) ثورة التصحيح
الثورة:
في عام 1961 حدثت في مصر ثورة بكل معاني الثورة وإن كانت سلمية . وهي ثورة تنسب إلى عبد الناصر ولايمكن أن تنسب إلا إليه . يمكن القول - مجازاً- أنها المرحلة الثانية من ثورة 1952. ولكنها كانت أكثر بكثير من ذلك . بل نستطيع أن نقول أنها أنهت ثورة 1952 فكراً وقيادة وقوى واتجاهاً . والقدر الذي يمكن قبوله بيقين أنها ثورة تصحيح لثورة 1952 مع تحفظ سنذكره فيما بعد .
أما إنها ثورة فلأنها تجاوزت وتخطت كل الأطر الدستورية والقانونية التي كانت قائمة وضربت ضرباتها بسلسلة من القرارات التي أصدرها عبد الناصر شخصياً بدون عرضها على أية مؤسسة دستورية . يقول أحمد حمروش قي كتابه " مجتمع عبد الناصر " إن عبد الناصر في ذلك التاريخ " بدأ يدبر ثورة جديدة بسرية كاملة.. بصورة تختلف قليلأ عما حدث قبل 23 يوليو ". وينقل عن زكريا محي الدين وعبد اللطيف البغدادي أن قرارات 1961 لم تعرض على مجلس قيادة الثورة السابقين في جلسات عمل رسمية ".. ثم يضيف " . وفجأة.. وبلا تمهيد.. ودون حشد للجماهير أو تعبئة للأفكار.. أو محاولة لتحريك التنظيم أخذت وسائل الأعلام من صحف وإذاعة تصدر بقوانين جديدة .. خلال أربعة أيام بدأت من 19 يوليو وانتهت يوم الاحتفال بعيد الثورة التاسع كانت قد صدرت كل تلك القوانين التي تمت بطريقة الصدمة وغيرت من واقع المجتمع " . -
وإما أنها ئورة سلمية فلأن الذي خطط لها وقادها رئيس الدولة ولم تجد مقاومة تذكر وإن كانت لم تتردد في شل حركة أية مقاومة محتملة عن طريق فرض الحراسات (التجريد من الامكانات الاقتصادية للمقاومة) و الابعاد من الريف ( التجريد من الامكانات القبلية والعشائرية للمقاومة ) . هذا- طبعاً في داخل مصر- أما في الخارج فقد أصيب أعداء عبد الناصر بالسعار وبدأ تجهيز الخطط لمعارك 1967 بقصد تصفية نظام عبد الناصر.
اما أنها ثورة جمال عبد الناصر فلأن جمال عبد الناصر هو الذي صاغ أفكارها وأصدر قراراتها وقاد عملية تنفيذها .. لا يعني هذا أنه لم يشاور فيها أحد، بل شاورهم . الذين تكلموا وعارضوا (عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين وزكريا محي الدين).. أما الباقون فعبروا عن موافقتهم .. بالصمت وعدم الاعتراض . ومن أستعان بهم عبد الناصر في صياغة ثورته في قوانين ، وكان من بينهم عزيز صدقي، لم يطلب إليهم رأيهم في مبدأ الثورة بل طلب رأيهم في كيفية تنفيذها .
أما أنها أكثر بكثير من أن تكون المرحلة الثانية من ثورة 1952 فلأنها لم تكن امتداداً تلقائياً ، ولو نامياً ، للمرحلة السابقة عليها . بل كانت قطعاً لذلك الامتداد التلقائي واختياراً جديداً في المنطلقات والغايات والأساليب بحيث تكاد تكون ثورة عليها لولا أن الثورتين متتابعتان وأن قائدهما واحد وهو ما حال دون الذين يركزون انتباههم على الجوانب الذاتية ويتجاهلون الجوانب الموضوعية ويبين الانتباه إلى أن ثورة كاملة عارمة حدثت في مصر عام 1961 أكثر تقدمية وأكثر ديموقراطية من ثورة 1952.
وقد يمكن أن تسمى ثورة 1961 ثورة تصحيح لمسار ثورة 1952 لأنها بينت التجربة الأولى وأخطاءها ولأن هدفها كان تصحيح تلك الأخطاء على ضوء حصيلة التجربة. يمكن أن تسمى كذلك مع تحفظ يستحق أقصى درجات الانتباه هو أن ليس كل تغيير تصحيحاً . التصحيح هوإلغاء للخطأ وتحقيق للصواب . أما إلغاء الصواب والرجوع إلى الخطأ فهو تصحيحاً بل ردة . ومقياس الخطأ والصواب هنا هو " التقدمية " التي لا تكون كذلك إلا إذا كانت محققة لمصالح أغلبية الشعب أي إلا إذا كانت ديموقراطية . لهذا نستطيع- إذا شئنا- أن نعتبر ثورة 1961 تصحيحاً لثورة 1952 لأنها أكثر منها تقدمية وديموقراطية . ولكنا لا نستطيع- مثلاً - اعتبار إلغاء ما أنجزته ثورة 1961، فيما لو وقع، والعودة إلى المبادىء الستة لثورة 1952 تصحيحاً .
ولقد بدأت الأحداث في مصر تمهد للثورة موضوعياً منذ عام 1956. ففي ذلك العام أثبتت الأحداث كما قلنا من قبل- بأكثر الأدلة إقناعاً -، إن الحرب، ان المراهنة على مساهمة رؤوس الأموال الأجنبية في التنمية مراهنة خاسرة . وان الاحتفاظ بالأستقلال الوطني وفتح أبواب الوطن لرؤوس الأموال الأجنبية معاً مستحيل في مصر (... وكافة الدول النامية) . ثم اننا قد عرفنا مما سبق كيف نكصت الرأسمالية المصرية عن تمويل خطة التنمية وخذلت قائد الثورة الذي منحها من الفرص الاقتصادية والسياسية أكثر مما تستحق .
ولقد كان عبد الناصر يجرب ولكن لا يفرط ، ويخطىء ولكن يتعلم ، ويثق ولكن لا يخدع ، وهكذا ما إن بدأت الأحداث تمهد للثورة حتى بدأ هو أيضاً يتحفز لها .
كان أول صدام مع الرأسمالية المصرية عام 1956 أيضاً . ففي ذلك العام صدر قرار تأمين شركتي السكر والتقطير ( أحمد عبود...) بعد أن عجزت الثورة بكل الوسائل عن اقتضاء الضرائب المتراكمة على شركتين اعتادتا التهرب من الضرائب منذ وقت طويل . ( في 24 مايو 1954 قضى نهائياً باحقية الحكومة في مبلغ 4.866.154 جنيهاً ضرائب متراكمة منذ 1948 فاصطنعت الشركتان ميزانية تقول أن خسائرهما ( 3.220.240 جنيهاً عام 1954) و في عام 1960 أمم البنك الأهلي المصري وبنك مصر وتلا ذلك تأميم تجارة الأدوية وصناعتها وشركات كبس القطن وفي ذات العام أممت الصحف .
وفي يوم 20 يوليو 1961 ضرب عبد الناصر ضربته الثورية بسلسلة من القرارات بقوانين . أولها القانون 117 لسنة 1961 بتأميم كافة البنوك وشركات التأمين ومنشآت أخرى بلغ عددها 489 منشأة وشركة ومصنعاً أضيفت تباعاً إلى الجدول الملحق بقانون بمقتضى قوانين وقرارات لاحقة آخرها القانون رقم 52 لسنة 1964 وكان من بينها بيوت تصدير القطن وشركات الحلج والنقل البحري والمقاولات والتجارة الخارجية وتجارة الجملة والمحال التجارية الكبرى والغزل والنسيج والنقل النهري والنقل المشترك في المدن ونقل السيارات في الأقاليم .
وفي ذات اليوم 20 يوليو 1961 صدر القانون 118 لسنة 1961 باشتراك الدولة بحصة لا تقل عن 50% من منشآت وشركات ومؤسسات بلغ عددها 384 بمقتضى قرارات وقوانين لاحقة آخرها القانون رقم 80 لسنة 1963. وقد تم في غضون عام 1962 التأميم الكامل لبعض تلك المؤسسات .
وفي يوم 20 يوليو 1961 أيضا صدر القانون رقم 119 لسنة 1961 بتحديد عشرة آلاف جنيه كحد أقصى لملكية أي فرد في مجموعة من الشركات . وتقرر إنهـاء عقود المناجم و المحاجر التي سيستغلها الأفراد وشركات القطاع الخاص واسقاط الالتزام عن شركات المياه والنور والترام الاجنبية وتأميم شركة شل للبترول وتحويل اسهم الجمعية التعاونية للبترول الى شهادات استثمار البنك الاهلي وأخيراً صدر القانون رقم 150 لسنة 1964 بتصفية الحراسات وتأميم كافة الأموال الموضوعة تحت الحراسة . ولقد تم ذلك بدون تعويض أكثر من 15 ألف جنيه .
وامتدت الثورة إلى الريف. فصدر القانون رقم 127 لسنة 1961 بتخفيض الحد الأقصى للملكية الزراعية للفرد وأسرته ( زوجته وأولاده القصر) من 300 فدان إلى 100 فدان بما فيها الأراضي البور والصحراوية. وحرم على أي مالك لأي أرض مهما كان مقدارها أن يحوز هو وزوجته وأولاده القصر بطريق الايجار أو وضع اليد أو بأية طريقة أخرى أكثر من خمسين فداناً كما حرم الوكالة في إدارة أو استغلال الأراضي الزراعية وما في حكمها فيما يزيد عن هذا القدر وبذلك أجبر من يملكون أكثرمن خمسين فداناً على تأجير الزيادة لصغار المزارعين فقضى بشكل أساسي على الرأسمالية الزراعية وفي عام 1963 (صدر القانون رقم 15) بتحريم ملكية الأجانب للاراضي الزراعية إطلاقاً. والقانون رقم 82 . بمنع توزيع الأراضي المستولى عليها والمزروعة حدائق على خريجي المعاهد الزراعية كما كان معمولاً به من قبل وإدارتها لحساب الدولة . وأخيراً صدر القانون رقم 104 لسنة 1964 ونص على أن تؤول الأراضي المستولى عليها إلى الدولة " بدون مقابل ".
وفي عام 1964 كانت كل النصوص التشريعية قد عجزت عن مواجهة حيل الاقطاعيين وكبار الملاك فاتخذ إجراء ابعادهم عن قرى الفلاحين وتحديد أقامتهم في مدن أخرى بعيدة عنها .
الانتباه إلى المجهولين:
قضت تلك الاجراءات إلى حد كبير على السيطرة الرأسمالية في مجالات الانتاج الزراعي والصناعي والتبادل وقطاع المال والخدمات فانفسح المجال لمزيد من المكاسب للعمال والفلاحين . ففي اليوم السابق على صدور قوانين التأميم صدر القانون رقم 111 لسنة 1961 بتخصيص 25% من أرباح الشركات المساهمة للموظفين وللعمال ثم امتد هذا الحق في 6 يناير 1964ليشمل المؤسسات العامة والشركات التابعة لها والجمعيات التعاونية و الشركات ذات المسئولية المحدودة .
وفي اليوم ذاته أي يوم 19 يوليو 1961 صدر القانون رقم 114 لسنة 1961 بأن يكون من بين أعضاء مجلس الإدارة في أية شركة أو مؤسسة عضوان منتخبان من الموظفين والعمال . وفي يوم 27 يوليو تقرر تحديد ساعات العمل فاصبحت 42 ساعة في الأسبوع مع يوم راحة بعد أن كانت 48 ساعة. فلما حاول بعض أصحاب الأعمال تخفيض الأجور بنسبة خفض ساعات العمل صدر القانون رقم 175 مقرراً عدم تأثر الأجور بتحديد ساعات العمل . وصدر القانون رقم 94 لسنة 1962 بالسماح بالتفرغ للعمل النقابي . والقانون رقم 938 لسنة 1962 بإباحة تكوين النقابات لعمال الحكومة والمؤسسات العامة والهيئات العامة والوحدات الإدارية و لم تستثن إلا وزارة الحربية.
الميثاق:
كانت كل تلك الإجراءات التي بدأت متفرقة ثم تكشفت في شهر يوليو 1961 تطبيقاً عملياً لمجموعة من الأفكار اختمرت في ذهن عبد الناصر فنفذها قبل أن تصاغ وتعلن في وثيقة بعام كامل . نعني بتلك الأفكار " ميثاق العمل الوطني " الذي قدمه عبد الناصر إلى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في 1 مايو 1962 وأقره المؤتمر وصدر يوم 30 يونيو 1962. قدمه عبد الناصر بقوله : " الميثاق عبارة عن مبادىء عامة أو إطار للعمل أو إطار للخطة . نتج عن ايه ؟ .. نتج عن تجربة وممارسة لمدة عشر سنوات. العشر سنوات اللي فاتت كانت فترة تجربة وفترة ممارسة. كانت فترة مشينا فيها بالتجربة والخطأ (جلسة 26 مايو 1962). و أقره المؤتمر وأصدره : " ليكون إطاراً لحياتنا وطريقاً لثورتنا ودليلاً لعملنا من أجل المستقبل " .
وإذا كانت تلك الاجراءات التي تحدثنا عنها جزءاً مكملاً لفهم الميثاق من حيث هو تطبيق له وإن كانت قد سبقت إصداره ، فإن الأسلوب الذي صدر به الميثاق والقرارات التي اتخذت في تكوين المؤتمر الذي أصدره تمس مشكلة الديموقراطية في مصر في الصميم . لقد تضمنت الاجراءات الاقتصادية التي سبقت إصدار الميثاق مزيداً من التحرر لقوى الشعب العاملة. وطرحه على أكبر مؤتمر شعبي سياسي منظم في تاريخ مصر بدلاً من إصداره بقرار جمهوري مثل القوانين التي سبقته يعبر بذاته عن اتجاه ديموقراطي لا شك فيه. واكثر من كل هذا دلالة على ديموقراطية عبد الناصر ما دار في المؤتمر واللجنة التحضيرية من قبله من مناقشة ساهم فيها عبد الناصر بقسط وفير. وعلى قدر ما نعلم لم يحدث في تاريخ مصر ولا في تاريخ أي بلد آخر أن اهتم رئيس دولة وقائد بأن ينتخب الشعب ممثلين له ليعرض عليهم افكاره وليناقشوه فيها ، قبل أن تعلن على الوجه الذي جرت به المناقشات الصريحة في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية. كما لا يكاد يكون معقولاً أن ذلك الرئيس القائد الزعيم لا يستثني من عضوية المؤتمر أولئك الذين يعرف أن أفكاره تدينهم فيقبل تحدي اللقاء معهم في مؤتمر علني تدور المناقشة فيه تحت سمع وبصر الشعب فيجادلونه ويجادلهم ويدافع عن موقفه المعادي لهم . ذلك لأن الرأسماليين والليبراليين وسدنتهم من المثقفين والكتاب كانوا ممثلين على أوسع نطاق في المؤتمركما كانت البيروقراطية ممثلة على نطاق واسع .
كان المؤتمر الوطني يتكون من أعضاء منتخبين منهم 379 يمثلون الفلاحين و 210يمثلون العمال و 150 يمثلون الرأسمالية و 293 يمثلون النقابات المهنية و 135 يمثلون الموظفين و 105 يمثلون أساتذة الجامعات والمعاهد العليا و 105 يمثلون الطلبة و23 سيدة بالاضافة إلى أعضاء اللجنة التحضيرية.
مفهوم مختلف للديموقراطية:
في حوار صريح دار يوم 7 أبريل 1963 خلال مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسورية قال عبد الناصر رداً على سؤال عن ماهية الديموقراطية : " لوكنت سألتنا يوم 23 يوليو ما هي الديموقراطية وما هي الحرية كنا أجنباك على هذا السؤال . بس النهاردة اجابتنا تختلف كلية عن اجابتنا يوم 23 يوليو و حصل خلاف بيننا بعد 23 يوليو على التفسير وصممنا على التفسير اللى موجود في المبادىء الستة وكان العمل هو طلاق الحرية البرجوازية. ( قررنا إقامة انتخابات في فبراير . هذا في 23 يوليو وبعدين وجدنا لما جينا نبحث الاصلاح الزراعي اننا حانسلم البرلمان للاقطاعيين اللي هما رافضين الاصلاح الزراعي لأنهم هما اللي حينجحوا في البرلمان ، فغيرنا المفهوم وأعلنا فترة انتقال مدة 3 سنوات وعملنا دستور 1956. فكان يوم 23 يوليو لنا مفهوم .. النهاردة لنا مفهوم يختلف كلية عن مفهومنا يوم 23 يوليو ولكن هذا التغيير كان نتيجة التطبيق والممارسة ".
ما هو هذا المفهوم المختلف كلية ؟ ؟ ..
لقد تضمنه الميثاق وصاغه في باب خاص منه وحدده بخمسة أبعاد متكاملة ننقلها مبوبة من الميثاق ذاته:
(1) ديموقراطية اشتراكية :
" إن الديموقراطية هي الحرية السياسية والاشتراكية هي الحرية الاجتماعية ولا يمكن الفصل بين الاثنين إنهما جناحا الحرية الحقيقية وبدونهما أو بدون أي منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق إلى آفاق الغد المرتقب ". " إنه لا معنى للديموقراطية السياسية وللحرية في صورتها السياسية من غير الديموقراطية الاقتصادية أو الحرية في صورتها الاجتماعية ". " إن حق التصويت فقد قيمته حين فقد اتصاله المؤكد بالحق في لقمة العيش ". " إن حرية التصويت من غير لقمة العيش وضمانها فقدت كل قيمة وأصبحت خديعة مضللة للشعب ". " إن الديموقراطية السياسية لا يمكن أن تنفصل عن الديموقراطية الاجتماعية وإن المواطن لا تكون له حرية التصويت في الانتخابات إلا إذا توافرت له ضمانات ثلائة: أن يتحرر من الاستغلال في جميع صوره . أن تكون له الفرصة المتكافئة في نصيب عادل من الثروة الوطنية . أن يتخلص من كل قلق يبدد أمن المستقبل في حياته ". بهذه الضمانات الثلاثة يملك المواطن حريته السياسية ويقدر أن يشارك بصوته في تشكيل سلطة الدولة التي ترتضي حكمها.
(2) تحالف قوى الشعب العاملة:
أولأ- " إن الديموقراطية السياسية لا يمكن أن تتحقق في ظل سيطرة طبقة من الطبقات. إن الديموقراطية حتى بمعناها الحرفي هي سلطة الشعب، سلطة مجموع الشعب وسيادته. والصراع الحتمي والطبيعي بين الطبقات لا يمكن تجاهله وانكاره وإنما ينبغي أن يكون حله سلمياً في إطار الوحدة الوطنية وعن طريق تذويب الفروق بين الطبقات ".
ثانياً - " إن الرجعية تتصادم مصالحها مع مصالح مجموع الشعب بحكم احتكارها لثروته ولهذا فإن سلمية الصراع الطبقي لا يمكن أن تتحقق إلا بتجريد الرجعية- أولأ وقبل كل شيء - من جميع أسلحتها". " إن تحالف الرجعية ورأس المال المستغل يجب أن يسقط "
ثالثاً - " لا بد أن ينفسح المجال بعد ذلك ديموقراطياً للتفاعل الديموقراطي بين قوى الشعب العاملة وهي : الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية، إن تحالف هذه القوى الممثلة للشعب العامل هو البديل الشرعي لتحالف الاقطاع ورأس المال المستغل وهو القادر على إحلال الديموقراطية السليمة محل الديموقراطية الرجعية " - " إن استبعاد الرجعية يسقط ديكتاتورية الطبقة الواحدة ويفتح الطريق أمام ديموقراطية جميع قوى الشعب الوطنية ".
(3) تنظيم التحالف:
" إن الوحدة الوطنية التي يصنعها التحالف هذه القوف الممثلة للشعب، هي التي تستطيع أن تقيم الاتحاد الاشتراكي العربى ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة لامكانيات الثورة والحارسة على قيم الديموقراطية السليمة ". " إن التنظيمات الشعبية السياسية التي تقوم بالانتخاب الحر المباشر لا بد لها أن تمثل- بحق وبعدل- القوى المكونة للأغلبية وهي القوى التي طال استغلالها والتي هي صاحبة مصلحة عميقة في الثورة كما أنها بالطبيعة الوعاء الذي يختزن طاقات ثورية دافعة وعميقة بفعل معاناتها للحرمان . وان كل ذلك- فضلاً عما فيه من حق وعدل باعتباره تمثيلاً للأغلبية، ضمان أكيد لقوة الدفع الثوري نابعة من مصادرها الطبيعية الأصلية . ومن هنا فإن الدستور الجديد يجب أن يضمن للفلاحين والعمال نصف مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية على جميع مستوياتها بما فيها المجالس النيابية باعتبارهم أغلبية الشعب كما أنها الأغلبية التي طال حرمانها من حقها الأساسي في صنع مستقبلها وتوجيهه " .
(4) قيادة التحالف :
أولأ- " إن الحاجة ماسة إلى خلق جهاز سياسي جديد داخل إطار الاتحاد الاشتراكي العربى يجند العناصر الصالحة للقيادة وينظم جهودها ويبلور الحوافز الثورية للجماهير ويتحسس احتياجاتها ويساعد على إيجاد الحلول الصحيحة لهذه الاحتياجات "
ثانياً - " إن جماعية القيادة ليست عاصماً من جموح الفرد فحسب . وإنما هي تأكيد للديموقراطية على أعلى المستويات "
(5) الديموقراطية الشعبية :
" إن سلطة المجالس الشعبية المنتخبة يجب أن تتأكد باستمرار فوق سلطة أجهزة الدولة التنفيذية فذلك هو الوضع الطبيعي الذي ينظم سيادة الشعب .. كذلك فإن الحكم المحلي يجب أن ينقل باستمرار وبالحاح سلطة الدولة تدريجياً إلى أيدي السلطات الشعبية " .
خلاصة:
خلاصة " النظرية " الديموقراطية التي جاءت في الميثاق هي أن الديموقراطية السليمة تتكون من عنصرين : تحرر وممارسة . وإن غايتها أن تنقل سلطة الدولة إلى السلطة الشعبية. أما عن التحرر فهو لا يتحقق إلا بتحرير الفرد من القهر الاقتصادي وهذا يعني أن الاشتراكية عنصر أساسي وأولي لامكان قيام ديموقراطية سليمة ومن هنا فلا بد من اسقاط الطبقة الرجعية المتحكمة اقتصادياً في أفراد الشعب. غير أن إسقاط الطبقة الرجعية لا يعني إخضاع الشعب لسيطرة طبقة أخرى ولو باسم الاشتراكية . الميثاق يعني هنا على وجه التحديد رفض النظرية الماركسية في " ديكتاتورية البروليتاريا " . إنه لا يتصور إمكان قيام ديموقراطية تحت سيطرة طبقة ، أية طبقة.
بعد التحرر من القهر الاقتصادي والسيطرة الطبقية تبقى " الحرية كل الحرية والديموقراطية كل الديموقراطية للشعب " ولكن هذا الشعب مكوّن من قوى اجتماعية (طبقات) لها مصلحة مشتركة في الاشتراكية ولكن تختلف فيما بينها فيما عدا ذلك مصلحة ومقدرة وتفصل فيما بينها فروق اقتصادية واجتماعية وثقافية. إن هذه الفروق تجعل الصراع بينها حتمياً . والصراع إما أن يحل سلمياً وإما أن يحل بالعنف. الحل بالعنف يؤدي بالضرورة إلى سيطرة الطبقة التي تنتصر وهذا يعني العودة إلى ديكتاتورية الطبقة الواحدة المرفوضة ديموقراطياً . كما أنه يؤدي - من ناحية ثانية- إلى تمزيق وإضعاف القوى ذات المصلحة الموحدة في الاشتراكية وهو ما يهدد بهزيمتها في صراعها المشترك ضد الرجعية. إذن- أولاً - مع الاعتر اف بالفروق بين الطبقات الشعبية لا بد من حل المتناقضات فيما بينها سلمياً وذلك بتذويب الفروق الاقتصادية والثقافية التي تمثل أسباب الصراع الاجتماعي فيما بينها. وثانياً لا بد لتلك الطبقات أن تتفاعل وتمارس حرياتها السياسية في نطاق موقفها الموحد من عدوها المشترك أي أن يقيموا فيما بينهم حلفاً أو جبهة .
غير أنه نتيجة ظروف تاريخية طال فيها استغلال الفلاحين والعمال كما طال حرمانهم من الممارسة الديموقراطية، وتعبيراً عن ظروف واقعية - في مصر- هي أنهم يمثلون الأغلبية الساحقة للشعب فلا بد من ضمان 50% على الأقل من مقاعد المنظمات المنتخبة للفلاحين والعمال . إن هذا لا يعني أن الـ 50% هذه تمثل العمال والفلاحين أو أنها تمثل أغلبيتهم العددية الفعلية. لا. هذا خطأ جسيم في فهم "النظرية"الديموقراطية التي جاء بها الميثاق . فلو كانت المسألة مسألة تمثيل بالمفهوم النيابي لكان حتماً ألا يشترك في انتخاب ممثلي العمال والفلاحين إلا العمال والفلاحون . ولكان حتماً ألا يمثل ممثلو العمال والفلاحين إلا العمال والفلاحين . ولكان حتماً أن يفرق الميثاق بين العمال والفلاحين في توزيع الـ 50% من المقاعد المضمونة. والأمركله على غير هذا. فالـ 50% من المقاعد مضمونة لممثلين من العمال أو من الفلاحين يستويان ينتخبهم كل الناخبين عمالاً وفلاحين أو غير عمال وفلاحين ، وفي مقاعدهم لا يقصرون تمثيلهم على العمال والفلاحين بل يعتبرون ممثلين للشعب كله ولا يحتكرون لأنفسهم تمثيل العمال والفلاحين بل يستطيع من شاء أن يمثل من شاء أو أم من يدعي تمثيل من شاء بدون تفرقة أو حساب . إن نسبة الـ 50% من المقاعد التي ضمنها الميثاق للعمال والفلاحين هي امتداد لذات الفكرة التي تعتبر محورية في موقف عبد الناصر من مشكلة الديموقراطية في مصر. فكرة إخراج المتخلفين ديموقراطياً من سلبيتهم وتحريرهم من الخوف من مخاطر المنافسة الانتخابية وإلزامهم باستعمال حق الترشيح والانتخاب بقصد تدريب الفلاحين والعمال وتشجيعهم على الممارسة الديموقراطية بضمان خمسين في المائة من المقاعد لهم ، لا في مجلس الأمة النيابى في الاختصاصات التشريعية فقط بل وفي " كل التنظيمات الشعبية والسياسية التي تقوم بالانتخاب الحر المباشر ". هذه الفقرة الأخيرة المنقولة عن الميثاق تؤكد هذا التفسير وتباعد بين ضمان خمسين في المائة من المقاعد وبين فكرة التمثيل النيابي .
ولكن لما كان كل تحالف لا بد له من قيادة ، وكانت الديموقراطية كما طرحها الميثاق ، لا تسمح بسيطرة طبقة، وبالتالي لا يجوز أن تترك قيادة التحالف لاحدى الطبقات الممثلة فيه فقد رأى الميثاق أن تكون قيادة التحالف لحزب يتكون من العناصر القيادية التي تثبت صلاحيتها للقيادة من خلال الممارسة بصرف النظر عن انتمائها إلى أي طبقة من الطبقات المتحالفة.
شائعات عن الميثاق:
لا نستطيع إلا أن نسميها شائعات لأن أياً منها لا يرقى إلى درجة الرأي المدروس . ولأن كلاً منها قد قيلت أو أطلقت لتأييد أو نفي موقف سابق من الميثاق وعبد الناصر ، أي إنها في رأينا أقوال " مغرضة " وكما تكون الشائعات مؤيدة ومعارضة أو مثيرة للبلبلة كذلك ما أشيع عن الميثاق . ونترك القارىء أن يحدد نوع الشائعة وموقف صاحبها من الميثاق وصاحبه .
النظرية المتكاملة:
قيل أولأ أن الرؤية الديموقراطية التي جاءت في الميثاق تمثل نظرية مبدئية متكاملة في الديموقراطية. تؤخذ كلها أو ترفض كلها ولكن لا تتجزأ . وإن كل مقولة من مقولاتها مبدأ ديموقراطي فلا هو خطة استراتيجية ولا هي موقف تكتيكي وبالتالي فهي ليست مرتبطة أو متوقفة لا على المرحلة التي صدر فيها الميثاق ولا على وجود عبد الناصر في موقع القيادة من سلطة الدولة .
وقد كان من شأن هذه الشائعة أن عجز كثير من جماهير عبد الناصر عن معرفة الموقف الديموقراطي الصحيح بعد أن تغيرت الظروف تغيراً جذرياً وغاب المعلم صاحب الميثاق .
والو اقع الذي نراه أن الرؤية الديموقراطية التي تضمنها الميثاق قد تضمنت ما يتصل بالمبدأ الديموقراطي وما يتصل بالتطبيق . وأن المبدأ ثابت - نسبياً- بحيث يمكن اعتباره مميزاً للموقف الناصري في كل الظروف . أما ما يتصل بالتطبيق فهو على وجه اليقين مرتبط بظروف التطبيق التي كانت متاحة عند إصداره وعلى وجه خاص يتولى صاحب الميثاق نفسه- جمال عبد الناصر- السلطة في الدولة. ولعله من المناسب أن نذكر أن من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها بعض مؤيدي عبد الناصر وبعض معارضبة كان جهل أو تجاهل العنصر المضاف إلى تجربة عبد الناصر من شخصية عبد الناصر كما لو كان عبد الناصر شخصاً عادياً أو حاكماً عادياً وهو غير صحيح . ان كل أفكار ومواقف عبد الناصر تكسب دلالة مختلفة حين تصدر أو تنسب إلى غيره لأنها تفقد الشخصية التاريخية و " ثقة " الجماهير العربية في ضمانة أدائها . فقد كان عبد الناصر يمثل لديها ضماناً محدداً لمعاني كلماته واتجاه مواقفه وهذا يعني- في رأينا- إنه إذا كان الميثاق قد أستمد في حياة صاحبه نوعاً من الوحدة الفكرية سمحت بالحديث عنه كنظرية فإن مصدر تلك الوحدة كان وحدة المفكر والمنفذ في شخص عبد الناصر. أما بعد غياب عبد الناصر فقد أصبح لازماً التفرقة بين ما يعتبر مبدأ ديموقراطياً وما يعتبر استراتيجية أو تكتيكاً تطبيقياً من بين أحكام الميثاق . على الأقل حتى لا يتوهم أحد أنه قادر على أن يكون عبد الناصر الثاني .. بدون التاريخ الذي صنع عبد الناصر.
على أي حال فقد تضمن الميثاق المبدأ الديموقراطي الثابت نسبياً الملزم دائماً والذي يمثل الزامه أو عدم التزامه الحد الفاصل بين الناصري وغير الناصري . ذلك هو " وحدة الديموقراطية والاشتراكية " لا ديموقراطية بدون اشتراكية ولا اشتراكية بدون ديموقراطية .
أما الباقي فهو أسلوب الممارسة الذي رأى الميثاق أنه مناسب للواقع المصري حين اصداره .
فالعزل والاستبعاد وإسقاط التحالف الرجعي أسلوب لمواجهة أعداء الثورة الاشتراكية . فهو يقوم على أن ثمة ثورة اشتراكية في التطبيق وأن ثمة قوى رجعية تناهض تلك الثورة . وبالتالي فإنه أسلوب لا محل لتطبيقه إذا لم تكن ثورة اشتراكية. وهو يتسع أو يضيق تبعاً لنمو أو انكماش القوى المناهضة للثورة الاشتراكية إذا كانت موجودة . وفي عام 1961 وما بعده لم تقابل إجراءات التحول الاشتراكي بمقاومة ظاهرة جديدة فاكتفى الميثاق بتجريد الرجعية من أسلحتها عن طريق القانون ( تحديد الملكية- الحراسة- العزل -.....) وهذأ ليس مبدأ ديموقراطياً لأنه يفترض أن الاشتراكيين في السلطة يستطيعون تجريد الرجعية من أسلحتها عن طريق التشريع . ولا يكون الاشتراكيون في السلطة دائماً . كما أنه يفترض أن الرجعية لن تقاوم فيكتفى بتجريدها من أسلحتها . و لكن الرجعية قد تقاوم التحول الاشتراكي وتصفيه بضراوة خاصة إذا وصلت إلى أكثر الأسلحة مقدرة على العنف : السلطة . أي أن اسلوب التعامل مع الرجعية يتوقف في النهاية على موقف الرجعية ذاتها ونوع الأسلحة التي تستعملها وهذا ليس موقفاً قابلاً للتحديد بعيداً عن الظروف الواقعية فهو ليس موقفاً مبدئياً . ولقد تصمور عبد الناصر نفسه امكانيات أن تنحرف إحدى الطبقات عن الخطأ الاشتراكي فقال : " إن علينا أن نقاوم مثل هذا الانحراف ونقومه ونثور عليه إذا اقتضى الأمر " .
ثم نأتي لفكرة التحالف . وهي- أيضاً - ليست مبدأ ديموقراطياً بل هي أسلوب ديموقراطي تواجه به قوى مختلفة أصلاً عدواً مشتركاً في معركة مشتركة ، فتؤجل صراعاتها إلى أن تنتصر. فهي دائماً مؤقتة ومرحلية إلى أن تنتصر الجبهة في معركتها المشتركة. وهي دائماً متوقفة على الالتزام المتبادل بين أطرافها بالتحالف حتى النصر . فإذا انتهت معركتها عادت إلى مواقفها المختلفة أو تحالفت بمرحلة أخرى على غاية أخرى . اما إذا نقض أحد الأطراف الحلف أو حاول أن " يبلع " أو يصفي أو يسيطر على حلفائه من خلال الجبهة فلا بد من أن تنفض الجبهة أو الحلف . وكل هذه بديهيات يعرفها علم السياسة ويعرف أنها تكتيكية أو استراتيجية- تبعاً لموضوع التحالف - ولكنها ليست مبدئية، بمعنى أن التحالف ليس مقصوداً لذاته بل هو مقصود لتحقيق الغاية التي تم التحالف على تحقيقها. عنصر الغاية هذا يجعل الموقف من التحالف مختلفاً تبعاً للموقف من غايته . فالرجعيون قد يتحالفون كما قد يتحالف التقدميون . وكما تتحالف الدول على الدفاع تتحالف الدول على العدوان . ولما كانت الغاية مجرد نوايا معلنة، وكانت النوايا لا يعتد بها في السياسة كثيراً فإن الضمان الحقيقي هو في قيادة التحالف . في معارك التحرر - مثلاً - قد يضم التحالف جماعات ومجموعات وأحزاباً وقوى مختلفة ، وقد يقبل المتطوعون حى بدون سؤال عن بواعثهم ويكفي أن تكون القيادة للوطنيين التحرريين الذين لا يسلمون ولا يساومون ولا يستسلمون . كذلك الأمر إذا كان التحالف على غاية الاشتراكية. ففي مرحلة معينة قد يضم التحالف قوى كثيرة قد يكون من بينها صغار الرأسماليين أو حتى المتوسطين منهم إذا كانت المرحلة مرحلة تنمية بالدرجة الأولى ، ولكن يبقى الضمان النهائي لعدم انحراف التحالف أن تكون قيادته للاشتراكيين . ثم نأتي إلى " تذويب الفوارق بين الطبقات سلمياً " . وهو أيضاً ليس مبدأ ديموقراطياً بل هو أسلوب ديموقراطي مناسب لظروف خاصة تتحقق فيها كل شروطه. وأول شروطه أن تكون سلطة الدولة في أيدي الاشتراكيين لأنهم وحدهم الذين يستهدفون تذويب الفروق بين الطبقات . وهي حينئذ تتم سلمياً حتى بدون نص . أولاً ، لأنه لا توجد سلطة في دولة في العالم أياً كان نظامها تقبل حل الناس تناقضاتهم بالعنف . ثانياً ، لأن الوسيلة السلمية لتذويب الفروق بين الطبقات " سلمياً " هو التشريع وهو ما يعني أن الاشتراكيين في السلطة يستخدمون الدولة في تطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية بحيث يؤدي هذا كله- معاً- إلى المساواة بين البشر وإذابة الفروق بين الطبقات سلمياً . هذا الشرط لا يتحقق دائماً . لأن الرأسمالية- مثلاً - ستقوم على أساس أن الفروق بين الطبقات أمر طبيعي ومفيد ولا يجوز التدخل لإذابتها أو إزالتها . وبالتالي حين يستولي الرأسماليون على السلطة لا يكون ثمة مجال لتذويب الفروق بين الطبقات سلميا ولقد اعترف صاحب الميثاق جمال عبد الناصر بهذا قبل أن يصدر الميثاق بعامين حين قال في 9 يوليو 1960: " في محاولة القلة التي لا تملك الاحتفاظ بما تملكه ومحاولة الكثرة التي لا تملك الفرصة المتكافئة لكي تستعيد حقوقها يصبح الصراع الدموي أمراً محتماً باعتباره الطريق الوحيد للتغيير ". ولعل هذا ما يفسر اختياره الاشتراكية غاية والتحالف أسلوباً ليجنب مصر الصراع الدموي . ومن ناحية أخرى فإن تذويب الفروق بين الطبقات سلمياً يعني رفض نظرية " ديكتاتورية البروليتاريا " التي تقوم على أساس من " تصفية " البورجوازية ثورياً . وذلك أيضاً يتفق مع الظروف الموضوعية في مصر- وكافة بلاد العالم النامي- حيث تكون الطبقة العاملة إما معدومة وأقلية وبالتالي تكون عاجزة عن إنجاز الاشتراكية ديموقراطياً. وأخيرآ فإن ضمان الـ 50% للعمال والفلاحين ليس مبدأ ديموقراطياً و لكنه أسلوب ديموقراطي لمعالجة التخلف الديموقراطي الذي أصاب العمال والفلاحين نتيجة لظروف تاريخية سابقة- في مصر- حملتهم على العزلة والانعزال وأخافهم من خوض المعارك السياسية والانتخابية التي لا يتقنون فنونها ولا يطيقون تكلفتها وهو ظرف طارىء لا يقيد العمال والفلاحين فيما لواختاروا لأنفسهم ساحة المعارك السياسية ليحصلوا بأنفسهم على ما يستحقون .
الميثاق ا لخالد:
من الشائعات التي قيلت عن الميثاق أيضاً أنه يتضمن نظرية دائمة على الأقل دوام النظريات النسبي. وخطورة هذه الشائعة أنها تشل مقدرة جماهير عبد الناصر على الإبداع والتطوير وتجاوز الميثاق ذاته. أي أنها شائعة تحاول أن تكرر الخطأ التاريخي : " قفل باب الاجتهاد ". لقد تولى عبد الناصر نفسه تكذيب هذه الشاثعة المعروفة حين قال أمام المؤتمر الوطني الذي أصدر الميثاق : " إن الميثاق للجيل... وأنا كنت حريصاً على ألا أحدد حاجة فيه لأكثر من 8 سنين يمكن حددت سنة 1970 أو 1971 لأنه جايز بيجي ناس بعد كده عندهم تطور فكري تقدمي أكثر من هذا الميثاق أو يحبوا يضيفوا عليه حاجات أو يعدلوه ".
التأثر بالماركسية:
الشائعة الثالثة أطلقتها أطراف متناقضة الفكر والمواقف . أراد طرف أن يجحد أو ينكر الاتجاه الاشتراكي الذي عبر عنه الميثاق فقال إن عبد الناصر قد صاغه تحت تأثير الماركسيين وخاصة بعض الضباط منهم أو تحت تأثير الفكر الماركسي . وأراد طرف اخر أن يجعل من نفسه شريكاً فعالاً في صياغة أفكار عبد الناصر فأكد أو روّج الشائعة فقال " إن عبد الناصر قد صاغ الميثاق متأثراً بالماركسيين أو بالفكر الماركسي ".
أما عن تأثير الماركسيين فيكفي لدحض هذه الشاثعة أن كل الماركسيين في مصر كانوا في السجون خلال المدة من 1959إلى 1964. كان ذلك امتداداً للصراع الذي ثار في العراق بين القوى القومية والشيوعيين . وكان عبد الناصر- القائد القومي طرفاً أصيلاً في ذلك الصراع منحازاً إلى القوى القومية كما كان الماركسيون في مصر طرفاً اصيلاً في ذلك الصراع منحازين الى الشيوعيين في العراق . وكان ما حدث للماركسيين في القاهرة رداً على ما حدث للقوميين في بغداد . ثم امتدت المعركة إلى خارج الوطن العربي . وما زال الناس يذكرون الصدام الاعلامي العلني بين الرئيس عبد الناصر والسيد نيكيتا خروتشوف الزعيم السوفيتي الراحل .
أما عن التأثر بالفكر الماركسي فهو ما لايستطيع أحد انكاره إلا إذا زعم بأن عبد الناصركان مغلق الفكر عن التراث الفكري الانساني بما فيه الماركسية . وهو غير صحيح . وإن كان من المؤكد أن عبد الناصر كان منتبهاً إلى التطبيق الماركسي أكثر من اهتمامه بالنظريات الماركسية . قال زكريا محي الدين: " لم يكن عبد الناصر فيلسوفاً نظرياً بل كان ثورياً جامحاً ". المهم أن عبد الناصر لا بد أن يكون قد تأثر بالفكر الماركسي وعلى وجه خاص بالتطبيق الماركسي ولكن السؤال هو: على أي وجه تأثر به؟ …هذا هو السؤال .
ونحن نعتقد أن تأثره به كان معارضة له وخاصة في فكرة التحالف أو تحالف قوى الشعب العاملة أو صيغة الاتحاد الأشتراكي العربي . ويبين هذا من أن الجمع بين المبدأ الاشتراكي وصيغة التحالف كان قاعدة مطردة في نظام الحكم التي وضعت في الدول المتحولة اشتراكياً بعد الحرب الأوروبية الثانية فيما عدا الاتحاد السوفيتي . كان مطبقاً في بلغاريا (دستور 1947) وفي رومانيا (دستور 1948) وفي بولندا (دستور 1948) و في تشيكوسلوفا كيا (دستور 1948) وفي يوغوسلافيا (دستور 1946) ذلك لأن نظام الحكم في كل تلك الدول المسماة بالديموقراطيات الشعبية كان قائماً على دعامتين :
الأولى: السيادة الشعبية بعد عزل (أو القضاء على) أعداء النظام الاشتراكي.
الثانية: التحالف بين قوى ساهمت كلها في معارك التحررمن الاحتلال النازي .
بالنسبة إلى الدعامة الأولى نجد أن فيها جميعاً ينتخب الشعب مجلساً شعبياً هو السلطة الوحيدة التي تنبع منها بقية السلطات . هو الذي يختار رئيس الدولة والحكومة ويصدر القوانين التي يطبقها القضاء. ولا يوجد هناك ما يسمى الفصل بين السلطات بل تقسيماً للعمل بين أجهزة متخصصة تستمد كل منها صلاحياتها من مجلس الشعب المنتخب . ولكن لما كان هذا المجلس منتخباً لمدة محددة فإن الشعب لا يجوز أن يبقى غائباً فيما بين فترات الانتخاب بل يبقى بصفة دائمة منظماً في لجان شعبية تضم كل أفراد الشعب وتمارس سلطات محلية وسياسية. وفي يوغوسلافيا منحت تلك اللجان الشعبية ما يقرب من الاستقلال الذاتي اقتصادياً وسياسياً ( نظام التسييرالذاتي) . فالشعب في تلك النظم ، إذن، يمارس سلطته على مستويين : مستوى مباشر في اللجان الشعبية ومستوى نيابي في مجلس الشعب .
هنا تأتي الدعامة الثانية، وهي القوى المحركة والموجهة والقائدة للشعب في مستوى الممارسة المباشرة. أي التي تنشط في تثقيف وتوجيه وصياغة الرأي العام في اللجان الشعبية. هذه القوى عبارة عن تحالف محوره وقيادته للحزب الشيوعي . في المجر يضم التحالف حزب العمال الاشتراكي والمستقلين وأحزاب المعارضة القديمة وفي تشيكوسلوفاكيا يضم الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي التشيكوسلوفاكي وحزب الحرية السلافي والجبهة الوطنية التشيكوسلوفاكية. وفي بلغاريا يضم التحالف الاتحاد الشعبي وجبهة الوطن ومجموعات أخرى . وفي بولندا يضم حزب " الفلاحين و الحزب الديموقراطي وجماعة " زراك " الكاثوليكية .
ونلاحظ في كل هذه الفكرة الأساسية. وهي أنه لما كان الشعب لا يستطيع أن يمارس سيادته بنفسه (الديموقراطية المباشرة ) فإن هيئة منتخبة تنوب عنه ( تمثيل نيابي) . ولكن لتأمين الديموقراطية ضد الاستبداد النيابي، يجب أن يبقى الشعب كله ! في حالة انعقاد دائم في لجان شعبية (اللجان الشعبية). ولما كان الشعب كله ليس في هذه المرحلة من التاريخ متقدماً ديموقراطياً لا في الوعي ولا في الممارسة، فإن القوى الواعية بالمبادىء وكيفية تطبيقها ( الأحزاب) يجب أن تبقى أيضاً في حالة نشاط دائم في داخل اللجان الشعبية وخارجها تثير المسائل وتناقشها وتدير حولها الحوار وتحاول أن تقنع من لا يقتنع . فإذا تعددت القوى الواعية المنظمة وكانت مختلفة في أية مسالة ما عدا مبدأ النظام الاشتراكي، فإنها تتحالف معآ لتؤدي بين الجماهير دوراً تثقيفياً وقيادياً واحداً ( في جبهة) .
أخذ وما يزال يؤخذ على هذه النظم المسماة ديموقراطيات شعبية أنها بالرغم من مظهرها الديموقراطي قائمة على فرض مفروض سابق على النظام ذاته، هو قيادة الحزب الشيوعي للقوى المتحالفة ثم سيادة الطبقة العاملة على باقي الطبقات .
الشرط الأول مصدر تاريخي فقد تولت الأحزاب الشيوعية في تلك الدول السلطة على أثر التحرير بمساعدة القوات السوفيتية. فاقامت نظمها الديموقراطية على الوجه الذي يحتفظ لها بالسلطة أبداً .
الشرط الثاني مصدره فكري . فالأحزاب الشيوعية تلتزم النظرية الماركسية. والنظرية الماركسية في الدولة إنها أداة قهر طبقي وأنها (عندما تؤول إلى الطبقة العاملة والبروليتاريا) تتحول إلى ديكتاتورية البروليتاريا .
لما كانت الاشتراكية نظاماً ديموقراطياً في الأصل بما يتضمنه من تحرر من القهر الاقتصادي والمساواة في العمل وفي عائد الانتاج فإن المساواة - التي هي جوهر النظام الاشتراكي- لا تحتمل الاستبداد سواء كان فردياً أو طبقياً . وما زال هذا الجوهر الديموقراطي للنظام الاشتراكي يدفع عجلة التطور في كل البلاد الاشتراكية مطهراً إياها من كل ما يتعارض معه من الموروثات التقليدية فكراً التاريخية ممارسة.
ولسنا نشك في ان عبد الناصر- صاحب الميثاق قد عرف كل هذا ووعاه وهو يبحث عن طريقه الى مشكلة الديموقراطية في مصر. كان يبحث عن صيغة لهذه الديموقراطية الشعبية تحقق مثلها ضمانة ضد مخاطر الاستبداد الكامنة في النظام النيابي ، وتخلو من استبداد الطبقة الذي تقره وتعترف به النظم في تلك البلاد. فأراد ان يستبدل بتحالف الاحزاب تحالف القوى العاملة. وان تحل محل قيادة الحزب الشيوعي للتحالف قيادة حزب اشتراكي طليعي ينتقي أفراده من بين قوى التحالف جميعاً .
وهكذا نرى ان عبد الناصر، مع اطلاعه وتأثره بالفكر الماركسي وتطبيقاته قد وقف منه في الميثاق موقفا نقديا حاول به ان يحرر المضمون الاشتراكي من " الديكتاتورية "... وان يجسد الوحدة الراسخة في ذهنه بين الاشتراكية والديموقراطية .
شائعة غريبة:
أغرب الشائعات التي قيلت عن الميثاق وعبد الناصر ان عبد الناصر قد وضع الميثاق لامتصاص موجة الغضب الشعبي التي سببها انفصال سورية . ان قصد التشهير والاتهام بالانتهازية هنا لا يمكن استبعاده بسهولة البديل الوحيد المحتمل هو التسرع في القول . ذلك لأنه ليس وراء هذه الشائعة شيء يقررها من الواقع . والواقع أن عبد الناصر كان يطبق الميثاق منذ 1961 وكان يبشر ببعض الافكار التي جاءت به منذ 1959 قبل الانفصال بمدة طويلة. وان الميثاق لم يكن صياغة لافكار نشأت طفرة كالوحي ولكن خلاصات دروس طويلة ومعاناة خلال التجربة التي بدأت في عام 1952. ولقد كان عبد الناصر يستطيع ان يصدر الميثاق قبل اصدار قوانين يوليو 1961 التي لم تكن الا تطبيقا مبكرا له. ولكنه لم يفعل لأنه أراد له ان يطرح على المناقشة قبل اصداره . ولقد نوقش الميثاق قبل اصداره في أكبرتجمع ديموقراطي حدث في تاريخ مصر. اما انه صدر فعلاً - أي رسمياً- بعد ان كان الانفصال قد وقع فهذا لا يعني انه اصطنع اصطناعا انتهازيا لامتصاص غضب الجماهير من الانفصال ... هذا غير صحيح .
وبعد:
اياً ما كان أمر الشائعات ففد صدر الميثاق وثيقة فكرية. انتقل بها عبد الناصر خطوة كبيرة بعيدا عن المنهج التجريبي ، وأصبح " الميثاق " كله موضوع التجربة ابتداء من تاريخ صدوره ..
فالى أي مدى حل عبد الناصر مشكلة الديموقراطية في مصر بعد صدور الميثاق . سنعرف الجواب فيما يلي . على ان نتذكر الان ان ليست العبرة في شأن الديموقراطية وغير الديموقراطية، بما يوضع من مواثيق او ينشر من أفكار، ولكن العبرة بما يصادق ، أو يصيب ، تلك الافكار في التطبيق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق