الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

هل كان عبد الناصر ديكتاتورا 4 ؟؟؟ لعصمت سيف الدولة

من كتاب هل كان عبد الناصر ديكتاتورا 4 - عصمت سيف الدولة

 هل كان عبد اتلناصر دكتاتورا - عصمت سيف الدولة

هيئة التحرير:
بعد أسبوع واحد من حل الأحزاب في 16 يناير 1953 أعلنت الثورة قيام هيئة التحرير يوم 23 يناير 1953 أثناء الاحتفالات بمرور ستة أشهر على قيام الثورة . وصاحب انشاء هيثة التحرير وتلاه نزول قادة الثورة إلى الشعب . وشهد عام 1953 طواف عبد الناصر بين المحافظات والمراكز والقرى والكفور ومواقع العمل يفتح فروع الهيئة الجديدة ويخطب ويشرح ويناقش ويبشر معرفاً الناس بالهيئة وغاياتها داعياً الناس إلى الانضمام إلى أول مشروع لحل مشكلة الديموقراطية في مصر .
قال عنها في خطاب القاه في مدينة المنصورة يوم 19 أبريل 1953: ".. أن هيئة التحرير ليست حزباً سياسياً يجر المغانم على أصحابه أو يستهدف شهوة الحكم والسلطان وإنما هي أداة لتنظيم قوى الشعب وأعادة بناء مجتمعه على أسس جديدة صالحة اساسها الفرد . فنحن نؤمن بأن أي نهضة لا يمكن أن تقوم الا إذا آمن الفرد ببلده وقدرته . وأن إعادة بناء هذا الوطن لن تتم إلا إذا قام كل فرد بواجبه . فلن نستطيع وحدنا أن نقيم هذا البناء . وأن الفساد الذي عم جميع مرافق البلاد طوال عشرات السنين فيحتم علينا أن نعمل كل في اتجاهه من اجل ازالته والقضاء عليه. واعلموا ان الطريق طويل وشاق فعلينا أن نتذرع بالصبر فالإرادة التي لا تعرف اليأس لا يقف أمامها أي عائق وسنصل باذن الله وسننتصر".
وقد يكون من المفيد أن نتعرف على بعض وثائق تأسيس هيئة التحرير. تلك الوثائق التي لم تحظ بمكان لائق في ذاكرة أغلب المؤرخين ومؤلفي المذكرات ، بالرغم من أن هيئة التحرير كانت ، منذ قيامها، تتضمن جوهر رؤية عبد الناصر لحل مشكلة الديموقراطية في مصر، وكانت هي التجربة الأولى لتجسيد تلك الرؤية. ولم يكن الاتحاد القومي ومن بعده الاتحاد الاشتراكي العربي ومنظمة الشباب الاشتراكي ، و طليعة الاشتراكيين إلا تعديلات تقع في نطاق تصحيح التجربة الأولى ولكنها تحتفظ بجوهر رؤية عبد الناصر للمشكلة وحلها..


الميثاق الأول:

قامت " هيئة التحرير " على ميثاق . ولا شك أنه مما يلفت الانتباه الحاح فكرة " الميثاق " على ذهن عبد الناصر منذ البداية إلى أن أخر صيغة كاملة لأفكاره عام 1962 فأسماها أيضاً الميثاق . فالميثاق ، كما نعرف ، هو العهد ولكنه يتضمن شيئاً أكثر من مجرد التعهد أو الالتزام الإرادي . يتضمن الثقة والائتمان المضمونين بحيث يكون النكوص عن الوفاء ليس مجرد تراجع بل غدراً و خيانة . على أي حال فإن العلاقة الوثيقة بين الالتزام السياسي و الالتزام الخلقي تمثل جانباً مثيراً من مفاهيم عبد الناصر ومفتاحاً رئيسياً من مفاتيح شخصيته ما يزال في حاجة إلى دراسة متخصصة . فقد كان لهذا الجانب اثار بالغة الخطورة في حياة عبد الناصر ومسيرة ثورة 23 يوليو . يكفي أن نذكر الدور الذي لعبه الجانب الذاتي في موقف عبد الناصر من كثير من أعضاء مجلس قيادة الثورة وبوجه خاص من " صديقه وزميله " عبد الحكيم عامر. لقد أدخل عبد الناصر عنصرالوفاء في علاقات كانت بطبيعتها لا تحتمل شيئا أقل من الحسابات الجامدة المجردة من العاطفة. غبر أن هذا يخرجنا عن نطاق حديثنا فلنرجع إلى ميثاق هيئة التحرير. يقول : " نحن أعضاء هيئة التحرير. قد ألينا على أنفسنا أن نجلي الغاصب عن وادي النيل بلا قيود أو شروط وأن نكفل للسودان تقرير مصبره دون أي مؤثر خارجي ، وأن نقيم في وطننا مجتمعاً قوياً أساسه الإيمان بالله والوطن والثقة بالنفس ، وان نكفل الحقوق والحريات للمواطنين ، فينال كل مواطن حقه في حياة كريمة ، تقوم على المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص ، وتضافر قوى الشعب لتحقيق رسالة الاصلاح الكبرى ، وأن نجعل نصب أعيننا وحدة الوطن المقدسة، وتعبئته في تنفيذ برامج التعمير والانشاء، وأن نعمل مامن شأنه قيام مصر برسالتها العالمية ، دولة قوية تحمل مشعل العدل والحرية ، و تسعى لخير الإنسان ، وتعاون الشعوب العربية ، وترعى المباديء القويمة التي نصت عليها المواثيق الدولية " .
كان ذلك هو برنامج عبد الناصر والثورة عام 1953 وهو أكثر وضوحاً بكثير من مباديء الثورة الستة كما أنه يتضمن كافة الأحلام التي أراد لها عبد الناصر أن تتحقق وحاول تحقيقها حتى وفاته بعد أن علمته التجربة كيف يكملها فكراً وكيف يطور أساليب تحقيقها .
و مع الميثاق صدر بيان إنشاء هيئة التحرير. يقول في بعض فقراته : " أن أيسر ما يقال في تأييد هيئة التحرير أنها طريق للعمل مفتوح أمام المصريين أجمعين . فهي ليست حزباً ينتفع بمزايا منفردة دون غيره ، ويتعصب أفراده لهذا الرأي دون ذاك . وهي ليست جمعية خاصة للإصلاح الاجتماعي أو النهوض بهذه أو تلك من جوانب الحياة المصرية. وهي ليست نادياً رياضياً يشجعه هواة الرياضة دون غيرهم من الناس ، بل هي مصر كلها منظمة في هيئة واسعة متشغبة الجوانب ، متعددة وجوه النشاط ، وأياً كان المصري ، وأيما كانت نزعاته وميوله ، فهو واحد في هيئة التحرير سبيلاً للعمل والخدمة والانتاج " .
ان التطابق الواضح بين هذا التعريف بهيئة التحرير وبين تعريف عبد الناصر لها لا يدع مجالاً للشك في أن عبد الناصر هو صاحب فكرتها ومنشئها وكاتب وثائقها . وتلك هي أهميتها بالنسبة إلى دراسة " عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر". لقد كانت مشروعه الأول لحل المشكلة.

لماذا هيئة التحرير؟

الذين كتبوا تاريخ تلك الفترة أو مذكراتهم عنها يكادون يجمعون ، ببساطة شديدة على أن الثورة أنشأت هيئة التحرير لتملأ الفراغ الذي تركه حل الأحزاب . وهو قول لا توازي بساطته إلا غرابته. فمن ناحية قامت هيئة التحرير مكتملة التأسيس بعد أسبوع واحد من حل الأحزاب . ولا بد أن مشروع هيئة التحرير كان محل دراسة وتحضير قبل أن يعلن قيامه مكتمل التأسيس بشهور. ومن ناحية ثانية فإن أسبوعاً بعد حل أحزاب كانت قائمة لا يكفي أن تشعر الثورة أن حلها قد ترك فراغاً فعلياً لا بد من ملئه. ومن ناحية ثالثة فإن الغاية من انشاء هيئة التحربر كانت مختلفة تماماً ، بل نقول مناقضة للغايات التي كانت تسعى إليها الأحزاب. لم تقم الثورة بتأييد من تلك الأحزاب حتى إذا ما حلتها سارعت إلى إنشاء بديل مؤيد. ولم تقم هيئة التحرير لتنظيم رجال الأحزاب المنحلة حتى لا يعانوا من فراغ تنظيمي . ولم تقم لتكون منبر الليبراليين ومثقفيهم وأداة لهم في الانتخابات البرلمانية لتملأ الفراغ الحزبي في نظام برلماني . أن القول البسيط بأن هيئة التحرير قد أنشئت لملء الفراغ الذي تركته الأحزاب المنحلة، بالإضافة إلى أنه يسلبها أصالها كتجربة رائدة ، يدل بشكل مأساوي على أن تاريخ مصر عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية لم يحظ حتى بالانتباه الجاد بله الدراسة العلمية . لقد بقي " الفراغ " الذي تركته الأحزاب ، مباديء وقوى ووظيفة، فارغاً ولم تهتم الثورة قط بملئه لأن الثورة كانت مهتمة بملء فراغ آخر تاريخي ، لم تكن الأحزاب مهتمة بملئه نريد أن نقول ان الفراغ الذي قامت هيئة التحرير لملئه كان يقع خارج نطاق مكان الأحزاب الذي أصبح فارغا بعد حلها. و ذاك فرق جوهري بين موقف الثورة وموقف الأحزاب من مشكله الديموقراطية في مصر.
لماذا، إذن، هيئة التحرير... نجتهد فنقول :

الوحدة من أجل التحرير:

علينا الآن أن نتذكر ونستفيد مما رجونا من قبل ألا ننساه :
" ثورة 23 يوليو عبد الناصر ينتميان إلى الخط الوطني الثوري الذي يتميز أساساً عن الخط الوطني الإصلاحي بأنه يعطي مشكلة التحرر أولوية على مشكلة الديموقراطية. وحين يتصدى لحل مشكلة الديموقراطية يعطي الأولوية لجانبها الشعبي .
(الحلقة 3 من هذا الحديث) .
إذا تذكرنا هذا أصبح محتوماً علينا: أولاً : أن نتوقع أن عبد الناصر كان في تلك الفترة مشغولاً بحل مشكلة الاحتلال الإنجليزي قبل أن يكون مشغولاً بمشكلة الأحزاب والديموقراطية وثانياً : أن عبد الناصر كان يبحث عن حل لمشكلة الديموقراطية في مصر يتفق مع متطلبات حل مشكلة احتلال مصر. وثالثاً : ان عبد الناصر كان يبحث عن حل مشكلة الديموقراطية في صفوف الشعب ذاته .
وهذا ما كان فعلا . ومن تلك الابعاد الثلاثة تحددت صيغة ومضمون مشروع حل مشكلة الديموقراطية الاول في مصر : هيئة التحرير .
فأولاً ،
منذ اليوم الأول للثورة بدأ الأعداد للمعركة المحتملة ضد الأحتلال الانجليزي . لم يكن طرد الملك إلا مقدمة تخلصت بها الثورة من العميل الأول . وتلتها تدابير صارمة وسرية. فقد كان عبد الناصر يمثل الخط الوطني الثوري الذي عرفنا عنه أنه كان يرفع شعار " لا مفاوضة إلا بعد الجلاء ". ولكن عبد الناصر هو القائد لهذا الخط يلي السلطة في مصر فيصبح رجل دولة عليه ان يفاوض قبل ان يقاتل . ولقد حل عبد الناصر ذاك التناقض بالحل الذي سيحسب فيما بعد من عبقريات الثورة الفيتنامية . المفاوضة تحت ضغط القتال . وهكذا بدأ عبد الناصر- اولا- بالاعداد للقتال . القتال الثوري وليس القتال النظامي . نعني حرب العصابات.
ففي الاشهر الاولى للثورة بدأت بوسائلها الخاصة تفرض الحصار والمراقبة على رجال السفارة الانجليزية في مصر وتقطع خيوط اتصالاتهم بعملائهم في الداخل . ولقد فرضت قيودا مشددة على التعاون بين القوات الانجليزية المرابطة في منطقة القناة بين سكان المدن المصرية المجاورة . و الغت كافة الصحف التي عرفت بالدعوة الى مهادنة المستعمر او التعاون معه. وعلى عجل وسرا انشئت ونشطت مصانع الاسلحة الصغيرة اللازمة لحرب العصابات ونقلتها وخزنتها في مواقع سرية قريبة من مواقع القتال المنتظر. ثم أخذت في تخزين المواد الغذائية والبترول لمدة تكفي مصر ستة أشهر على الاقل .
ثم أنشأت مراكز تدريب " الحرس الوطني " ولما ان تم تدريب عدد كاف منهم ، وكلما تم تدريب عدد، أرسلتهم ووزعتهم في قلب معسكرات الجيش الانجليزي في هيئة عمال وموظفين وموردين . وعينت للمعركة القادمة قائدا من الضباط الاحرار هو : كمال رفعت .
وثانيا،
بينما كان الاعداد لقتال المحتلين قائما على قدم وساق كان التحضير لتنظيم الوحدة من أجل التحرير قائما على قدم وساق أيضا . لم يكن ثمة مجال للتفكير في أية صيغة تسمح بالتعدد الحزبي او بالصراع الاجتماعي . لأن الاولوية كانت - في ذهن عبد الناصر- للتحرر الوطني . وكان لا بد من أن تلتحم الجبهة الشعبية في اطار تنظيمي واحد فقامت هيئة التحرير تنظيما واحدا .
وثالثا،
كان عبد الناصر يعرف ما كان كل المصريين يعرفونه من علاقة بين قوى الاحتلال والاحزاب الليبرالية التي حلتها الثورة . ولم يكن ادعاء على تلك الاحزاب ما جاء في قرار حلها الذي اذاعه محمد نجيب حين قال : " ولما كان اول أهداف الثورة هو اجلاء الاجنبي عن أرض الوطن ، ولما كنا آخذين الان في تحقيق هذا الهدف الاكبر والسير به الى غايته مهما تكن الظروف والعقبات ، فاننا كنا ننتظر من الاحزاب ان تقدر مصلحة الوطن العليا وتقلع عن أساليب السياسة المخربة التي أودت بكيان البلاد ومزقت وحدتها وفرقت شملها لمصلحة نفر قليل من محترفي السياسة وأدعياء الوطنية. ولكن على العكس من ذلك اتضح لنا ان الشهوات الشخصية والمصالح الحزبية التي أفسدت أهداف ثورة 1919 تريد ان تسعى سعيها ثانية بالتفرقة في هذا الوقت الخطير من تاريخ الوطن فلم تتورع بعض العناصر من الاتصال بدولة أجنبية.. " لم يكن ادعاء بل كان حقيقة يختلف مداها من حزب الى حزب (ما عدا الحزب الوطني كما أقر عبد الناصر وأشرنا اليه من قبل) . ذلك لأنها كانت أحزابا من أولاد وأحفاد حزب الامة : ضد الصدام مع الانجليز ومع التعاون معهم ثم يختلفون فيما بينهم درجات . ومن هنا اتجهت الثورة في تحقيق الوحدة الوطنية وصيغتها الديموقراطية الى الشعب بعيدا عن خريجي مدرسة مهادنة المستعمر والتعاون معه، فكانت هيئة التحرير. ولم يلبث كل هذا ان ثبت في الواقع فبعد ان اكتمل الاعداد للصدام وحلت الاحزاب وقامت هيئة التحرير أعطى عبد الناصر اشارة البدء الى النضال من اجل انهاء الاحتلال . ولما كانت هيثة التحرير جزءا من خطة المعركة فلم يكن اعتباطا انه أعطى تلك الاشارة بمناسبة افتتاح فرع هيئة التحرير في شبين الكوم 27 فبراير 1953 قال : " على الاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل . أن الشعوب التي تساوم المستعمر على حرياتها توقع في نفس الوقت وثيقة عبوديتها لذلك فإن أول أهدافنا الجلاء بدون قيد أو شرط " . وتوالت من فروع هيئة التحرير خطب عبد الناصر التي تحولت الى شعارات واغان قال يوم 17 مارس 1953، ردا على الصحف الانجليزية التي زعمت ان الجلاء سيعرض مصر والقناة لمخاطر أجنبية : " ان الدفاع عن الشرق الاوسط أمر يعني دول هذه المنطقة أكثر من غيرهم ولن يستطيع شعب يرزح تحت نير الاستعمار أن يدافع عن استمرار هذا الاستعمار في وطنه بحجة تخويفه من اعتداء آخر يتعرض له هذا الشعب او لا يتعرض ". وقال في اليوم التالي 18 مارس 1953 : " ان مصر لن تساوم على حقها الطبيعي في الجلاء الناجز الكامل ، ولاتقبل أي نوع من أنواع الاحتلال ، ولن تسمح في حالة نشوب حرب للبريطانيين في امتخدام القاعدة الجوية في القناة . والمصريون أقدر على تحمل مسئوليات الدفاع عن القناة من أية قوة أجنبية. وستحافظ مصر على استقلالها وحريتها حتى آخر رجل وامرأة " . وأنذر قائلا : " اذا لم تتخلص بلادنا من الاحتلال فسنسحب قواد الثورة من الحكومة لقيادة الشعب في حرب عصابات نشنها على الانجليز وسننشر أعمال الفداثيين بطريقة تشعر هؤلاء بانهم يدفعون غاليا ثمن عدوانهم على بلادنا ".
بعد هذا، وليس قبله، بدأ عبد الناصر المفاوضة مع الانجليز يوم 27 أبريل 1953. وبمجرد ان أحس ريح المساومة قطع المفاوضة يوم 8 مايو 1953 أي بعد عشرة أيام من بدئها .. وبدأت المقاومة السرية وأعمال التدمير في المعسكرات الإنجليزية وتوزيع الأسلحة على أفراد الشعب في منطقة القناة وتصاعدت إلى درجة أنه في يناير 1954 قال سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم " أنه من المستحيل الوصول إلى اتفاق مع مصر ما دامت هذه الأعمال مستمرة ". وأعلن وكيل وزارة الخارجية في مايو 1954 أنه وقع 52 اعتداء على جنودهم في منطقة القناة في الأسابيع الستة السابقة فاضطرت بريطانيا إلى طلب استئناف المفاوضة في يوليو 1954 بعد أن استمعت جيداً إلى قول عبد الناصر في مدينة الاسماعيلية (منطقة القناة) يوم أول يوليو: " لن يقف الاستعداد للمعركة إلا حينما يخرج آخر جندي أجنبي من هذه البقعة الغالية من أرض الوطن .. ولن يقف الاستعداد للمعركة إلا بعد أن نشعر أننا كرماء في بلادنا قد حصلنا على حريتنا فإن هدف ثورتنا هو تحرير مصر تحريراً كاملاً ".

المسحراتي :

في إطار ذلك الصراع من أجل التحرر قامت هيئة التحرير كأول مشروع للثورة لحل مشكلة الديموقراطية في مصر. نريد أن نقول أن عبد الناصر لم يتوقف عند جمع كافة السلطات في بداية عام 1953 ولكنه حاول ان يحل مشكلة الديموقراطية في مصر عن طريق هيئة التحرير التي رأى أنها الأسلوب المناسب لحل تلك المشكلة في ظروف الصراع ضد قوة الاحتلال من أجل التحرر الوطني . ولقد سخرت الثورة ، وعبد الناصر شخصياً ، كل الامكانات المتاحة بشرياً ومالياً وإعلامياً وثقافياً لإنجاح هيئة التحرير. ولقد كان الاصرار على انجاحها قاطع الدلالة على ثبات عبد الناصر في الاتجاه الديموقراطي وان تحديد فترة الانتقال بثلاث سنوات كان يرجع إلى الاعتقاد بأنها مدة كافية لنجاح مشروع هيئة التحرير . ولقد حققت بقيامها أول نجاح جزئي هام . هام لأنه يتصل بالمبدأ الديموقراطي ذاته إذ حسمت الشك في إتجاه الثورة ديموقراطياً بعد أن كان الاستبداد بالسلطة يثير الشك وان كان لا يطفىء الأمل . إن قيام هيئة التحرير حوّل الأمل المعلق إلى فعل إيجابي وضعت الثورة على أول الطريق إلى حل مشكلة الديموقراطية في مصر . هذا- طبعاً- بالإضافة إلى الأمل المعلق على لجنة وضع الدممتور التي شكلتها الثورة من رجال القانون وعلماء الاجتماع وممثلين للاتجاهات السياسية حتى القديمة منها ، بقرار 13 يناير 1953 وكانت ما تزال قائمة بمهمتها .
ومما هو جدير باكبر قدر من الانتباه أن هيئة التحرير كانت تمثل- عبد الناصر كما يبدو من أقواله- مرحلة أولية وتحضيرية لقيام أحزاب جديدة . في أول المرحلة قال في المؤتمر السياسي العام الذي انعقد في ميدان الجمهورية يوم 16 سبتمبر 1953 : " إن هذه الثورة لن تتخلى عن مكانها حتى تحقق هدفها الأكبر وهو القضاء على الاستعمار وأعوانه من الخونة المصريين ومهما طال الأمد فهي معركة بدأناها ولن نعرف فيها زماناً ولا مكاناً حتى تتطهر البلاد من المستعمرين والخونة والمضللين والمارقين . وعندئذ ستتعلم الأحزاب أن تنشأ على قواعد جديدة من أجل مصر وليس من أجل حفنة من الناس المضللين ". وفي نهاية المرحلة يقول الصحفي الهندي كارنجيا يوم 10 مارس 1957 نقلاً عن عبد الناصر : " واستطرد الرئيس فأعرب عن ثقته بأن الزعماء الوطنيين المخلصين سينتخبون وأن البرلمان ستقوم فيه تكتلات ومجموعات وربما تكون فيه معارضة في المدى الطبيعي للأحداث كما تبرز بعد ذلك طبعاً قوى سياسية جديدة ومن المحتمل أن تكون هناك أحزاب ". وهو جدير بأكبر قدر من الانتباه لأن عبد الناصر لن يتخلى عن التعدد الحزبى كحل نهائي لمشكلة الديموقراطية إلا بعد قيام الثورة بعشر سنوات تعلم فيها من التجربة دروساً كان بعضها شديد المرارة كما سنرى فيما بعد.
يهمنا الآن أن نسأل : هل كانت هيئة التحرير مشروعاً ديموقراطياً حقآ؟..
نتذكر ما قلناه من قبل في مقدمات هذا الحديث لنقف مع الشعب ، أغلبية الشعب ، ونسأل سؤالآ اخر. هل كانت سلبية الشعب ، أغلبية الشعب في مصر ، إزاء النشاط العام والسياسي واقعاً أولا "؟.. لاشك أنه كان واقعاً لا يستطيع أحد إنكاره خاصة إذا انتبه إلى أننا نعني بالشعب أغلبيته من الفلاحين والعمال وصغار الحرفيين والمهنيين و النساء و الجنود وأمثالهم . أولئك لم يكونوا قبل الثورة حتى ناخبين . وكان الناخبون منهم يختارون في الانتخابات مرشحي السلطة أومن توعز السلطة بانتخابه. وعن طريقهم استطاعت حكومات الأقلية أن تشكل برلمانات ذات أغلبية لا تقل عن أغلبية الوفد . ولم يكونوا يقرأون الصحف فإن نسبة الأمية فيهم كانت أكثر من 90 في المائة . وما كان يعنيهم ما يدور في قمة السلطة في القاهرة. ولم يستطع أي حزب سياسي أن يكسبهم إلى عضويته العاملة . أو على الأصح لم يهتم أي حزب بأن يكسبهم إلى عضويته العاملة ويشركهم في نشاطه المنظم . ولم يهتموا هم بأن يكونوا أعضاء عاملين في أي حزب . لقد كان حزب الوفد هو حزب الأغلبية بدون منازع ولكن بمعنى انه في أية انتخابات حرة كان يحصل مرشحوه على أغلبية أصوات الناخبين . ولكن حزب الوفد كتنظيم كان محدود العدد والعضوية وكان قصارى انتشاره التنظيمي ما كان يسمى لجان الوفد في المحافظات . وكانت عضويتها الثابتة مقصورة على عدد ضئيل من النواب والشيوخ أو ممن يحضرون أنفسهم ليكونوا نواباً وشيوخاً . وكان امتداده في الجامعات مجموعات من طلاب السنين النهائية ينفذون أوامر قيادته تمهيداً لتلقي الوظائف بعد التخرج . على أي حال كان حزب الوفد حاضراً في المدن على وجه ما . أما في القرى والكفور والعزب والمصانع و المعامل والحواري والأزقة والصحاري ، وكل تلك الأماكن الكئيبة التي يعيش فيها الشعب ، فلم يكن لحزب الوفد وجود منظم . مرة واحدة حين أنشيء حزب مصر الفتاة (21 أكتوبر 1933 ) على النمط الفاشستي عرفت المراكز والقرى لجاناً حزبية ثم أنحسرت التجربة سريعاً ولم تترك أثراً . ومرة أخرى عرفت المواقع الشعبية تنظيم الأخوان المسلمين كجماعة دينية وكان جل أعضائها في الريف أخواناً في الدين وفديين أو غير وفديين في الانتخابات. لهذا لم يكن غريباً أن حزب الوفد قد أفلس أو كاد في فترة أقصائه عن الحكم بعد 1944 حتى اضطر- حين عاد إلى الحكم - أن يتاجر في الرتب والألقاب ليعمر خزانته ( كان ثمن رتبة الباشوية 30000 جنيه ورتبة البكوية 10000 جنيه واستطاعت طائفة من تجار مخلفات القوات الانجليزية أن تصبح من الباشوات والبكوات . مرجع ذلك إلى أن تلك الأحزاب جميعها كانت تفتقد الظاهرة الجماهيرية المنظمة والاشتراكات الثابتة وكانت تعيش على تبرعات قياداتها من الاقطاعيين والرأسماليين الطامعين في الحكم أو في تسخير الحكم لمصالحهم . خارج تلك الدائرة كان الشعب راكداً .
ثم جاءت هيئة التحرير حجراً ألقي في بحر الركود الشعبي . وامتلأت القرى والكفور والعزب و الأحياء ا الشعبية، بالإضافة إلى المدن ، بمقار هيئة التحرير . ووقع كل مصري تقريباً ، أو ختم أو بصم على طلب العضوية. وظهرت في القرى صفات يتنافس عليها الناس غير العمودية والمشيخة والخفر تلك هي صفة " عضو هيئة التحرير ". واحتفظ الأميون في جيوبهم بفخر شديد، ببطاقات عضوية هيئة التحرير قبل أن يعرفوا بطاقات إثبات الشخصية (الهوية) . ولم تتركهم الثورة يلتقطون أنفاسهم . فهي تدعوهم وتجمعهم و " تلملمهم " وتحشدهم في كل مكان من أرض مصر وفي كل مناسبة ، وحتى بدون مناسبة، ليستمعوا في فضول وعجب وإعجاب إلى رجال الثورة يتحدثون إليهم أحاديث طويلة عن التحرير والحرية والاستعمار وعن مصر التي هي مصرهم والحكم الذي هو حكمهم والمستقبل الذي هو مستقبلهم . وتشهر أمامهم علنا وبأقسى الألفاظ بالملوك والأمراء والباشوات والباكوات والسادة الذين ما كان يخطر ببال المستمعين قط أنهم قابلون لأن يشهر بهم .
وقامت هيئة التحرير، على مدى ثلاث سنوات بدور المسحراتي اللحوح ، تصرخ وتغني وتطبل لتوقظ الناس من " أحلى نومة " بصرف النظر عن الصائمين وغير الصائمين .

طرائف للذكرى:

ولم يكن الأمر يخلو من الطرافة التي تثير الضحك مرحاً وليس سخرية، وان كانت جماعة الليبراليين ومثقفوها قد سخرت من التجربة كلها سخرية لاذعة. ولم يضحك أحد مرحاً كما ضحكنا يوماً من منظر الموسيقار الرقيق " الموسوس " محمد عبد الوهاب وهو محشور في ركن من أركان ميدان الجمهورية (عابدين) يغني لمائة ألف مصري محتشدين في الميدان يهتفون للثورة . هو يغني وهم يهتفون فلا يكاد يسمع نفسه. وهم يتصببون عرقاً وهو يدرأ عن أنفه ما لا يطيق بمنديل معطر . ولم يكن محمد عبد الوهاب إلا عميد الفنانين في مصر الذين زفوا الثورة إلى شعب مصر بكل أنواع الفنون .
ولم يضحك أحد مرحاً مثل الذين ضحكوا وهم يرون الألوف من الفلاحين المجهدين وقد جمعوا من الغيطان لتلقى عليهم الخطب المطولة في الحرية والتحرير فلما أعيد عليهم نداء " ارفع رأسك يا أخي " اختلط عليهم المعنى الحقيقي بالمعنى المجازي فرفعوا رؤوسهم المدلاة من فرط الارهاق .
وجذب الاصرار على اليقظة كثيراً من المثقفين فذهبوا يبتكرون أساليب غريبة للإيقاظ ، من أول قطارات " الرحمة " تنطلق من القاهرة لتزور المدن والأرياف وتدعو الفقراء إلى إعانة الفقراء متخذة من الدعوة وسيلة إلى تثبيت معاني الوحدة الوطنية ومسئولية الشعب عن حل مشكلاته بنفسه، إلى مئات من الحافلات تنطلق ذات يوم من القاهرة تحمل الكتاب والصحفيين والمترفين والفضوليين والانتهازيين أيضاً ، كل يحمل شجرة صغيرة لزراعة غابة " كوم أوشيم " قرب الفيوم . إلى ما هو أكثر من هذا جدية حين كسر حاجز الصحراء وأنشئت مديرية التحرير وأقيمت في صحرائها قرى نموذجية ونقل إليها الفلاحون بعد أن ألبسوا أزياء موحدة قريبة الشبه بأزياء الفلاحين في هولندا.. هذا قبل أن تثمر أرضها ما يكفي لشراء تلك الأزياء.
ثم تؤمم القناة فيكاد الشعب أن يجن فرحاً ويكاد كل مصري أن يحسب نفسه شريكاً في تأميم القناة . ولم يكن تأميم القناة مجرد إجراء اقتصادي أو سياسي موجه ضد الانجليز أو غيرهم بل كان إعلاناً مدوياً بأن مصر قد تحررت- أخيرا- من احتلال . هكذا فهمه الشعب في مصر وهكذا فهمته جماهير الأمة العربية وهكذا فهمه العالم كله فيما اعتقد. ثم تأتي الأحداث الكيرى وتتعرض مصر للغزو الثلاثي في أكتوبر 1956 فإذا بالشعب كله رجالاً ونساء وأطفالاً يخرج إلى الشوارع هاتفاً " حنحارب.. حنحارب " مردداً بذلك نداء قائده في ساحة الأزهر. وتشهد مصر ما لم تشهده منذ أحمد عرابي : جموع الفلاحين من القرى ومن كل أطراف مصر تحمل أسلحتها بنادق وفؤوس وعصي وتحمل إرادتها المتحررة متجهة الى حيث لا تدري " لتحارب ". ويقع الغزو فينهار بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة أنفسهم (عبد الحكيم عامر وصلاح سالم ) ولكن عبد الناصر يرفض الاستسلام ويفتح مخازن السلاح ويوزعه على الشعب ويدفع بجزء كبير منه إلى كهوف الجبل الشرقي في محافظة أسيوط - التي يعرفها جيداً - لتكون تحت تصرف معركة الشعب ضد الغزو الجديد فيما لو سقطت القاهرة وزمجرت في الماء الراكد أمواج روحية هائلة . هنالك كانت اليقظة قد تجاوزت إطارها وذابت الثورة- لفترة- في أمواج الجماهير المتلاطمة فتحول المد الجماهيري إلى طوفان أطاح بكل نظام وتنظيم . ومع ذلك فحين وجه إلى الشعب نداء بأن يعيد الأسلحة التي وزعت عليه بدون إيصالات أعاد شعبنا الأصيل إلى الثورة التي وثقت به كل قطعة من السلاح التي وزعته . حتى اللصوص وجدوا أن ليس من الرجولة أن يخذلوا الثورة التي وثقت بأمانتهم .

وماذا عن الديموقراطية:

هل كان لكل ذلك علاقة بالديموقراطية مشكلة أو الديموقراطية حلاً؟

تتوقف الإجابة على موقف كل واحد من الديموقراطية . أما الليبراليون والمثقفون - إلا القليل- وتلك الشريحة الممتازة علماً ومالاً فقد كانت في هيئة التحرير اصطناعاً وتهريجاً وتضليلاً وضياعاً للوقت والمال و" ضحكاً على الناس " وافتعالاً لحركة جماهيرية أبعد ما تكون عن الجماهير وعن الديموقراطية وكان المتحذلقون منهم يرون فيها خطة مدبرة لاضفاء شكل جماهيري على ديكتاتورية عسكرية لا تريد الاعتراف بحقيقتها. وكانت حجة كل أولئك أن الجماهير لم تكن هي التي أنشأت هيئة التحرير ولم تكن هي التي وضعت نظامها وما كانت هي التي تقودها أو تحركها أو تسهم في تكوين عناصر نشاطها . كانت الجماهير " تلملم " لترى أو تسمع أو تصفق أو تتظاهر ثم تفض حين يطلب منها قادة الثورة . وكان كل هذا صحيحا إلى حد كبير. ومن هنا فإن الذين توقعوا لهيئة التحرير أو من هيئة التحرير أن تكون هي ذاتها منظمة ديموقراطية قد خاب أملهم فيما توقعوا لها وما توقعوا منها.
أما الذين كانوا يقفون من مشكلة الديموقراطية موقف الشعب لسب ويرونها على ضوء احتياجاته الفعلية فلا شك يقدرون ما أسهم به المشروع الديموقراطي الأول للثورة في سبيل حل مشكلة الديموقراطية في مصر.
اشتركت الجماهير العريضة في منظمة جماهيرية اشتراكاً شكلياً . فليكن . ولكن تلك الجماهير لم تكن من قبل تشترك في أية منظمة ولم يكن أحد يهتم بإشراكها . تحركت الجماهير بالاغراء أو حتى بالقسر . فليكن . ولكن تلك الجماهير كانت قد اعتادت عدم الحركة أصلاً . جمعت الجماهير لملمة في السرادقات لتسمع الخطب السياسية التي لا تفهم منها شيئا . فليكن . ولكن تلك الجماهير لم تكن تجتمع إلا في الجنائز ولم تكن تسمع ولا تهتم بأن تسمع خطاباً سياسياً ولم يكن أحد يهتم بأن يسمعها خطباً سياسية . شدت هيئة التحرير انتباه الجماهير إلى أشكال مصطنعة من النشاط العام . فليكن . ولكن تلك الجماهير لم تكن من قبل تنتبه أصلاً للعمل العام . ركزت هيئة التحرير على الأميين والجهلة ولم تتح فرصة كافية للمثقفين . فليكن. ان مشكلة الديموقراطية في مصر كانت كامنة في صفوف الأميين والجهلة وليس بين المثقفين .
باختصار إن الثورة لم تحل في تجربتها الأولى " الديموقراطية في مصر ولم تحقق شيئاً يهم الليبراليين ولكنها في مصر الشعب اقتحمت كل المواقع وأيقظت كل النيام و حملتهم على أن يفتحوا أعينهم على القضايا العامة وان يستمعوا إلى أحاديث وأناشيد الحرية . ولقنتهم أول دروس الوعي السياسي . وأهم من هذا كله انها أقنعتهم وحاولت أن تقنعهم وبكل الوسائل والأساليب أنهم الأصل والعنصر الأهم في مشكلة الديموقراطية. وهي محاولات لم يصدقها بسهولة شعب تآمرت كل الأحزاب السابقة على عزله فانعزل . ولقد كان كل ذلك انجازاً ديموقراطياً كبير بصرف النظر عمن بقي يقظاً ومن عاد إلى نومه ، من صدق أن له حقاً ومن لم يصدق ، و بصرف النظر عن كل أسباب الضحك مرحاً أو الضحك سخرية. أياً ما كان الأمر فقد كانت مرحلة هيئة التحرير دليلاً لا شك في صحته على إصرار الثورة وقائدها عبد الناصر على حل مشكلة الديموقراطية في مصر على مستواها الأكثر حدة وهو المستوى الشعبي .
كانت خطوة تلتها خطوات . كانت تجربة تناولها التصحيح . فلننتظر الخطوة التالية.

(9) السلطة، كل السلطة، للشعب

نهاية الحركة الأولى :

" التجربة. الخطأ. التصحيح " تلك هي الحركات الثلاث للمنهج التجريبي الذي عالج به عبد الناصر مشكلة الديموقراطية في مصر . وبهذه الحلقة من الحديث تنتهي الحركة الأولى : التجربة ثم نبدأ بعدها الحديث عن الحركة الثانية : الخطأ . تمهيداً لمرحلة ختامية يكون حديثنا فيها عن التصحيح . بدون أن ننسى أن الحديث كله عن تجربة عبد الناصر وخطأ عبدالناصر وتصحيح عبد الناصر. وأن الحديث كله لعبد الناصر، وليس لنا منه إلا المقدمات التي تفتح له المجال ، والهوامش التي تربطه بالوقائع ، وبعض التعليقات التي تساعد على تفهم مضامينه ثم العناوين .
نقول هذا وندعو الله أن يلهم الصبر لمن بدأوا يضيقون بحديث طال بدون أن يصادفوا فيه نقداً لتجربة عبد الناصر كأننا نسبح بحمده وهو ميت وما سبحنا بغير حمد الله وهو حي ، لكل شيء آن والصبر طيب. وقريباً سندعو الله أن يلهم الصبرلمن سيضيقون بحديثنا لفرط ما سيتضمنه من عرض لأخطاء تجربة عبد الناصر في علاجه لمشكلة الديموقراطية في مصر .
المسألة اننا نكشف أو نكتشف ، رؤية عبد الناصر للمشكلة ومحاولاته حلها . وقد كان عبد الناصر، حتى المرحلة التي قطعناها ، يعتقد أنه يحلها الحل الصحيح . وفي مرحلة لاحقة سيقول لنا عبد الناصر نفسه ما هي الأخطاء ونحن لا نريد أن نتدخل فنسبقه.
المهم، أن عبد الناصر، في نهاية مرحلة الانتقال ، أي في غضون عام 1955، عبّر بقوة عن اقتناعه بنجاح ما تم من خطوات على سبيل حل مشكلة الديموقراطية، وبهيئة التحرير، بل إنه أعلن انتصاره في حل المشكلة. قال في نجع حمادي يوم 5 يوليو 1955: " إذا قلنا أن فترة الانتقال قد انتهت فإننا نعني أنكم جميعاً قد أصبحتم مجلس الثورة لا عشرة منكم فقط . أن الشعب جميعاً ، حينما تنتهي فترة الانتقال، يصبح هو مجلس الثورة . هذا هو معنى الديموقراطية وهذا هو معنى الحرية وهذا هو معنى البرلمان ". وقال في قرية برنشت يوم 23 يوليو 1955 : " ها نحن بعد ثلاثة أعوام أقول لكم اننا انتصرنا في الثورة الوطنية وحققنا الجلاء والثورة السياسية فقضينا على الاستبداد السياسي الذي كان يتمثل في السياسيين القدامى وأعوانهم ، هذا الاستبداد الذي خيم على هذا الوطن وكنا نعاني منه الكثير. لقد انتصرنا في الثورة الوطنية والثورة السياسية.
وقال في القاهرة يوم 16 يناير 1956: " استطعنا يا أخواني في خلال هذه السنوات الثلاث أن نقضي على الاحتكار نقضي على سيطرة رأس المال على الحكم وأن نقيم حكماً نظيفاً ينبثق من ضمير هذا الشعب وينبثق من نفسية هذا الشعب وينبثق من آمال هذا الشعب .. كانت فترة السنين الثلاث الماضية فترة هدم وفترة تصفية للرجعية والاستعمار ولاعوان الاستعمار . ولكنا اليوم نعلم أن هذا الدستور هو بداية الكفاح من أجل العمل والبناء . إن الدستور لم يكن هدفنا ولكن الدستور يرسم الطريق إلى غرضنا الأكبر. إن الدستور هو تعبئة كاملة لأبناء هذا الشعب . إن الدستور الذي نعلنه وثيقة تكتب ولا وثيقة للخداع ولا وثيقة للتضليل لأننا نعلنه نحن الشعب .. لا يعلنه فرد من الأفراد ولا سلطان ولا صاحب سلطة. ان الدستور الذي نعلنه اليوم يبين خطة الكفاح ولا نهاية الكفاح .
" إن الدستور الذي نعلنه اليوم يبين وسيلة الكفاح ويرسم وسيلة الكفاح ".
" أيها المواطنون : إن الثورة الحقيقية تبدأ اليوم . ثورة من أجل العمل . ثورة من أجل البناء . ثورة يمارسها الشعب ، ثورة يحرسها الشعب . تحرسونها أنتم جميعاً ويحرسها أولادكم من بعدكم ويحرسها أحفادكم ".
ثم يعلن من دار الرياسة بالقاهرة يوم 17 يناير 1956 قرار الانتصار : " لقد زالت دولة الأقطاع وقامت دولة الأحرار . انتهت دولة الأسياد والعبيد وقامت دولة المساواة كلنا في هذه الأرض أحرار ".



ما الذي حدث :

ما الذي حدث في نهاية فترة الانتقال حتى يستطيع عبد الناصر، بكل تلك الثقة أن يعلن انتصاره في حل مشكلة الديموقراطية وقيام " دولة الأحرار "، بل وانتهاء دور مجلس الثورة ؟.. حدث أمران لكل منهما دلالته الديموقراطية الواضحة .
الأمر الأول : أن عبد الناصر قد أوفى بوعده للشعب وأنهى فترة الأنتقال في آخر يوم من السنوات الثلاث التي حددها يوم 16 يناير 1953. بداها بالاستبداد بالسلطة . وخلالها انتصر على كل القوى التي تصدت للثورة. وفي نهايتها لم يكن في حاجة إلى أن يسترضي أحداً أو يخاف من أحد . كان يستطيع أن يبقى مستبداً بالسلطة لأية مدة يريدها. كان يستطيع أن يمد فترة الانتقال سنة أخرى أو أكثر كما فعل حكام من قبله ومن بعده . و لكنه أوفى بوعده و انهى فترة الانتقال .
الأمر الثاني : هو إعلان دستور 1956 فطوال المرحلة السابقة كانت اللجنة التي شكلت بقرار 13 يناير 1953 مستمرة في وضع مشروع الدستور الذي وعدت به الثورة في نهاية فترة الانتقال . ولقد أعدته فعلأ وقدمته إلى مجلس الوزراء يوم 17 يناير 1955 ولكن عبد الناصر رفضه. لماذا؟... لأنه يأخذ بالنظام النيابي البحت . وتولى عبد الناصر شخصياً اعداد الدستور الجديد الذي أعلنه في 16 يناير 1956 .
ان هذا الدستور، دستور 1956، يستحق الانتباه الجاد من كل الذين يريدون جادين أن يعرفوا موقف عبد الناصر من الديموقراطية عامة ومن مشكلة الديموقراطية في مصر . ذلك لأن فيه صاغ عبد الناصر لأول مرة أفكاره عن الديموقراطية في نصوص دستورية . حوّل رؤيته إلى نظام للحكم . ولأن به عبّر عبد الناصر، بوضوح قاطع ، عن بدء القطيعة بينه وبين الديموقراطية الليبرالية . تلك القطيعة التي ستتحول في مرحلة لاحقة إلى عداء صريح . ولقد عبّر عبد الناصر عن بدء القطيعة مع الليبرالية برفضه النظام النيابي البحت..
للمساهمة في تفهم أعمق للموقف نقول كلمة عابرة عن النظام النيابي .

أعطني وكالة.. لأحكمك :

باختصار مختصر نحوّل ثلاثة قرون من التاريخ إلى أسطر معدودات ولا نخل بالجوهر إن شاء الله .
(حتى القرن السادس عشر) كانت الكنيسة تسيطر على حكم وحكام أوروبا باسم نظرية الحق الألهي . الحكم لله وحده ويختار لأدائه في الأرض من يشاء . ولما كان البابا هو ممثل الله في الأرض فقد كانت كلمته مصدر الشرعية والحرمان . وساد القانون الكنسي بعد أن لم يكن في أوروبا قانون . و لكن أوروبا الاقطاعية كانت محاصرة منذ النصف الثاني من القرن الثامن . كان قد حاصرها المسلمون . ففرض الحصار على الاقطاعيات أن تتبادل منتجاتها وخدماتها بعد أن سدت طرق التجارة الخارجية. فنشطت التجارة الداخلية وكان التجار في أول أمرهم باعة جوالين فيما بين الاقطاعيات فأطلق عليهم " المعفرة أقدامهم " ( ما تزال المحاكم التجارية في إنجلترا تحمل اسما ترجمته محاكم المعفرة قدمه) . أولئك كانوا رواد الطبقة البورجوازية التي لم تلبث حتى حولت الانتاج من الاستهلاك إلى المبادلة ، وحررت الفلاحين من التبعية الاقطاعية، وقامت المدن والمراكز التجارية و المناطق الحرة وأنشأت البنوك وأباحت الربا بعد أن كان محرماً ، و صاغت القوانين ورشت أو أقرضت الأمراء ومولت حروبهم.. " وفي مقابل كل خطوة كانت تحصل- بالثمن أو بالرشوة أو بالقوة - على " حرية " جديدة . وكانت تلك الحريات البورجوازية، كلها، تستهدف غاية " تجارية " واحدة .. عدم تدخل الحكام في شئون التجارة وما تستلزمه من " حرية " التعاقد، و" حرية " العمل و" حرية " الانتقال و" حرية " المضاربة و" حرية " التملك.. وذلك هو الجوهر مما عرف باسم الليبرالية .. عدم تدخل الدولة.. إلا لمصلحة البورجوازية بحجة حماية " الحريات ".
كانت أولى المصالح المبكرة للبورجوازية الأوروبية هي فك الحصار الإسلامي وفتح طريق التجارة إلى الشرق . فتحالفت مع الكنيسة المسيطرة فقال البابا أربان الثاني لأمراء الأقطاع : " أن الأرض التي تقيمون عليها لا تكاد تنتج ما يكفي لغذاء الفلاحين ، وهذا سبب اقتتالكم فانطلقوا إلى الأماكن المقدسة وهناك ستكون ممالك الشرق جميعاً بين أيديكم فاقتسموها ". وهكذا بدأت الحروب الصليبية التي استمرت قرناً كاملاً ( 1096 - 1192 ) بتحريض وتمويل البورجوازية الأوروبية . أما في أوروبا فحين أراد ملك فرنسا فيليب الجميل أن يحصل من البورجوازية الفرنسية على تمويل الحرب ضد إنجلترا (1296) أفتى البابا يونيفاس الثامن بأن المسيحية تحرم المساهمة في حرب ضد شعب مسيحي ...
فلما انهت الكنيسة دورها في خدمة البورجوازية كان لا بد من إسقاط سلطتها بقصد إخضاعها للضرائب أولأ ولانتزاع حق القضاء منها ثانياً وليحل القانون المكتوب محل التفسيرات الكنسية للنصوص الدينية ثالثاً . فتحالفت البورجوازية مع الملوك . ونشأت نظرية العناية الإلهية كمصدر لشرعية السلطة ، فالحكم لله وحده ولكن ليس من الضروري أن يختار له ممثلاً واحداً في الأرض هو البابا . كتب جان دي باري عام 1302 أن الحياة تنقسم إلى قسمين متميزين ومنفصلين ، قسم مادي وقسم روحي . وأن الله يختار لكل منهما من يتولاه ، فاختار الكنسية للحكم الروحي واختار الملك للحكم الدنيوي .. فالملك قد تلقى سلطته بدون وساطة الكنيسة ". الخطوة التالية أن الله لا يختار مباشرة ولكنه يوجه الأمور الدينية بعنايته لتستقر السلطة في يد ملك . فكل ملك هو ملك بعناية الله . ولا دور للكنسية أو البابا ( مارتن لوثر ابتداء من 1520 وجان كالفن ابتداء من 1536) .
ولكن الأمور تجاوزت الحدود التي أرادتها البورجوازية . هانت الكنيسة إلى درجة أن ملك فرنسا قبض على البابا جورجي السابع ونفاه . ولكن الملوك استردوا لأنفسهم نظرية الحق الالهي العتيقة . قال لويس الرابع عشر : " الدولة هي أنا ". وقال لويس الخامس عشر عام 1770 : " ان حق إصدار القوانين التي يخض لها ويحكم بها رعايانا هي حقنا نحن بدون قيد وبدون شريك " وقال عام 1766 : " ان النظام العام كله ينبع مني ، وكل حقوق ومصالح الأمة .. هي بالضرورة متحدة مع حقوقي ومصالحي وليس لها مكان إلا بين يدي " . وكانوا يدرسون في كلية الحقوق : " إن الأمة ليست متجسدة في فرنسا بل هي متجسدة بأكملها في شخص الملك .. ".. وقاد فلاسفة الاستبداد حملة ترويض البشر. هوبز في انجلترا (كتاب العملاق عام 1651) . وجان بودان في فرنسا (كتاب الجمهورية عام 1576) . في هذا الكتاب الأخير- وكان يعني بالجمهورية الدولة- برر بودان الاستبداد بأكثر النظريات تخلفاً ، الدولة كالعائلة، والملك هو كبير العائلة. وكما لا تصلح عائلة لا كبير لها لا تصلح دولة لا ملك لها . وكما أن على أفراد العائلة أن يطيعوا كبيرهم ، على رعايا الدولة أن يطيعوا ملكهم .. الخ .
غير أن البورجوازية التي أصبحت تسيطر على الحياة الاقتصادية والثقافية ما كان لها أن تقبل عودة الاستبداد تحت ستار هذا المنطق العائلي . وشنت ضد الملوك المستبدين ثورات دموية كانت أهمها ثورة 1688 ضد جيمس الثاني آخر ملوك أسرة ستيوارت ( 1685 - 1688 ) الحاكمة في إنجلترا. كان السبب الظاهر للثورة أن جيمس الثاني أصدر قانون التسامح الديني . ولكن هارولد لاسكي الفيلسوف الإنجليزي يرجعها إلى سببها الحقيقي فيقول : " إن ملوك أسرة ستيوارت عرقلوا سبيل التجارة بالاحتكارات التي منحوها لأفراد بطانتهم " .
وأسفرت الثورة عن انتصار البرجوازية وصدور أول دستور مكتوب في تاريخ أوروبا باسم " وثيقة الحقوق ".. وبعده بقرن تقريباً ستنتصر البورجوازية في فرنسا ويصدر " اعلان حقوق الإنسان والمواطن " (26 أغسطس 1789) .
السؤال الآن هو: باي حق كانت البورجوازية تناهض الاستبداد الملكي؟.. هل بالحق الإلهي؟ لا. هل بحق العناية الإلهية ؟؟ لا. هل بحقها هي في الحكم ..؟ لا أيضا : إنما تحدت استبداد الملك بحق الشعب في الحكم . وأسمته الحق الطبيعي . وقادت الشعوب ضد الاستبداد تحت الشعار الذي انتهى أخيراً إلى صيغته الفرنسية " حرية . اخاء . مساواة " انتصرت الثورات الليبرالية بقيادة البورجوازية وباسم الشعب فإن للبورجوازية أن تفسح له الطريق ليحكم .. ألم تكن الديموقراطية هي غاية الثورات؟..
أبداً . ليست البورجوازية غبية إلى هذا الحد . انها تريد أن تحكم هي ولكن باسم الشعب . تحكم من ؟.. تحكم الشعب نفسه ولكن باسم الشعب . كيف يمكن أن يكون ذلك ؟ عن طريق الوكالة. فليكن . وفي فترة مبكرة من تاريخها كان " ممثلو " الشعب يجتمعون في " البرلمان " حاملين تعليمات الذين اختاروهم مكتوبة في " كراريس " وكان عليهم أن يقدموا عن وكالاتهم حساباً . ارتضى البورجوازيون ذلك يوم أن كانوا في حاجة إلى "رضى " الشعب في أوائل صراعهم مع الملوك المستبدين . ولكن بعد أن انتصروا أصبح عليهم أن يتحرروا من الرقابة الشعبية ...
فاخترعت البورجوازية، اختراعاً ، نظام التمثيل النيابي (موريس دو فرجيه) . وخلاصته أن الشعب يختار ممثليه. ولكنهم . بمجرد اختيارهم - لا يكونون ممثلين لأحد ولا يكون لأحد عليهم سلطة الرقابة والمتابعة والعزل بحجة أن كل نائب ، بمجرد انتخابه، يمثل " الأمة " كلها ولا يمثل أحداً بعينه..
في عام 1774 قال الفيلسوف السياسي الإنجليزي بيورك وهو يشكر ناخبي دائرة بريستول بعد اختياره نائباً : " إن البرلمان ليس مؤتمراً للمبعوثين يمثلون المصالح المختلفة المتنافسة . إنه اجتماع لمناقشة أمور أمة.. ".. ويقول الفقيه الإنجليزي بورجوس : " إن لمجلس العموم السيادة على الملك واللوردات والشعب " ويقول أستاذ العلوم السياسي الفر نسي جورج بوردو : " إن السلطة التي كسبها البرلمان من الملك والوزارة على أساس أنه ممثل الشعب لم تعد إلى الشعب . ان حركة تحول السلطة من الملك إلى الشعب قد أوقفت في مرحلة معينة حيث تدخلت قوة ثالثة هي البرلمان واستولى عليها لنفسه ". ويقول الفقيه الفرنسي الكبير كاريه دي ملبرج : " إن النظام المسمى " التمثيل النيابي " ليس نظام تمثيل نيابى بالمعنى الصحيح للكلمة لأن أعضاء الهيئة التشريعية لا يمكن اعتبارهم ممثلين لا للمواطنين ولا للأمة ". ويقول موريس دو فرجيه " ان الليبرالية البورجوازية قد وجدت في التمثيل النيابي " سلاحاً صالحاً لتحد من سيادة الملك و النبلاء من ناحية وتحرم الشعب من ممارسة أية سلطة من ناحية أخرى " ويقول جاريجولا جرانج - أستاذ القانون الدستوري - : " لم يكن مبدأ النظام النيابي في حقيقته إلا مبدأ سيادة البرلمان وهي تواجه سيادة الشعب نفسه الذي أبعد بعناية وعناد عن ممارسة سيادته " فيقول رينيه كابيتان : " ان النظام النيابى في أصله قام بعيداً عن الديموقراطية بل ومضاداً لها ... "
ولم يقل أحد أبداً، من علماء السياسة أو علماء القانون ، في أي مكان من العالم ، إن النواب يعبرون عن إرادة ناخبيهم أو إن البرلمان يقرر ما يريده الشعب . ذلك لأنه، فيما عدا يوم الانتخاب ، لا يسمح النظام النيابى للشعب بالتدخل في شئون الحكم أو المساهمة فيها . أقصى ما قيل دفاعاً عن النظام النيابي إنه نظام ضرورة : ما دام الشعب لا يستطيع أن يجتمع كله ليناقش ويصدر القرارات التي تحكمه فلا سبيل إلى صدورها إلا عن طريق من يختارهم لوظيفة التشريع .. ثم يكمل النقص بما يتيحه النظام للشعب من وسائل الضغط (الانتخاب دورياً - حرية الصحافة- حرية الأحزاب.. الخ) . وفي مطلع العشرين بدأ إدخال نظام الاستفتاء الشعبي للاقتراب من الديموقراطية . وخلاصته، أنه ما دام النظام النيابي نظام ضرورة مادية (عدم إمكان إجتماع الشعب فليبق ولتتح للشعب نفسه كل فرصة ممكنة للاسهام بنفسه في الحكم عن طريق استفتائه في المساثل الهامة.. ولكن هذا الاتجاه الديموقراطي الذي ساد وسط أوروبا في العشرينات لم يلبث أن توقف تحت مد الديكاتورية النازية.. ليعود فيظهر في فرنسا مرة أخرى عام 1958 (دستور ديجول) كعلاج ديموقراطي لا بد منه لغيبة الشعب في ظل النظام النيابي …
قبل دستور فرنسا الذي صدر عام 1958 بثلاثة أعوام عرضت لجنة الدستور التي شكلتها ثورة يوليو 1952، في مصر ، مشروع الدستور على مجلس الوزراء يوم 17 يناير 1955. وإذ بعبد الناصر يرفضه. لماذا؟.. لأنه يأخذ بالنظام النيابى البحت . ويضيف عبد الناصر قوله أن النظام النيابى البحت يقصر دور الشعب على مهمة انتخاب نوابه في فترات معينة من الزمن دون أن يفسح مجالاً ليمارس الشعب بعض سلطاته بنفسه أثناء هذه الفترات . ثم يصوغ عبد الناصر شخصياً دستور 1956 ويعلنه متضمناً " الاستفتاء الشعبي " ومقرراً اعطاء السلطة كل السلطة للشعب ..
ويقولون أن تاريخ العلوم السياسية كان من مواد القراءة المفضلة لدى عبد الناصر....

دستور عبد الناصر (1956):

إذا كان عبد الناصر يريد أن يفي بوعده ويصدر دستوراً في نهاية فترة الانتقال فلماذا لم يقبل النظام النيابى البحت ؟ . ولماذا يريد أن يقحم الشعب في ممارسة السلطة جنباً إلى جنب التمثيل النيابي وليس بديلأ عنه ؟ .. ان كل الذين يعرفون تاريخ النظام النيابى وتطوره يعرفون أنه أقل النظم إزعاجاً للحكام . فهو يقسم السلطة فيما بينهم فمنهم المشرعون ومنهم المنفذون ومنهم القضاة . ويقيم بينهم توازناً ورقابة متبادلة، ويغنيهم جميعاً عن متاعب التدخل الشعبي في أمور الحكم إلا حين يريدون العودة إليه لتجديد انتخاب السلطة التشريعية كل بضعة سنوات . قال فيلسوفه الأكبر مونتسكيو : " إن هناك عيباً خطيراً في الجمهوريات القديمة وهو أن الشعب كان له الحق في أن يأخذ قرارات إيجابية ويطلب القيام ببعض الأمور التنفيذية أيضاً ، وهو مالاطاقة أو كفاءة له به " .
فهل كان عبد الناصر يبحث عن مزيد من المتاعب . فيدخل الشعب طرفاً في السلطة في حين أن أحداً لم يطلب منه ذلك أو حى يتوقعه؟..
سنرى من أقوال عبد الناصر التي سنذكرها فيما بعد أنه كان ما يزال مصراً على المضي قدماً على طريق حل مشكلة الديموقراطية في مصر . كان ما يزال يرى المشكلة قائمة بصفة أساسية على المستوى الشعبي فاعتقد أن الجماهير الراكدة التي حركتها هيئة التحرير لا بد لها - لتكمل يقظتها- من أن تسند إليها سلطات دستورية لتصبح "شريكة" رسمياً في الحكم .
وهكذا نرى دستور 1956 يتضمن كافة الحريات والحقوق السياسية وقواعد النظام النيابي التي كان يتضمنها دستور 1923. ولكن يضيف إليها أن يكون رئيس الجمهورية منتخباً من الشعب ، وأن يستفتي رئيسن الجمهورية الشعب فى المسائل الهامة التي تتصل بمصالح البلاد العليا ، والا يتم التعديل في الدستور إلا بعد استفتاء الشعب فيه .
إذا كانت الدلالة الديموقراطية لهذه الإضافات غامضة على غير المتخصصين ، فإن التعديلات والإضافات التي أصابت قانون الانتخاب ، وصاحبت الدستور الجديد، كانت قاطعة الدلالة على الاتجاه الديموقراطي . ذلك لأننا إذا انتبهنا إلى أن حق الانتخاب هو الترجمة الفعلية لما يقال له الحرية السياسية، فإن أكثر من ثلاثة أرباع شعب مصر قد كسبوا هذه الحرية بعد أن كانوا محرومين منها ( قانون 73 لسنة 1956) .
فلآول مرة في تاريخ مصر أطلق حق الانتخاب من كل القيود تقريباً . خفض السن إلى 18 سنة ميلادية وهي أقل من سن الرشد المدني (21 سنة) . ففتح مجال الممارسة الديموقراطية لأجيال جديدة من الشباب. وتقرر حق الانتخاب لأول مرة في مصر للنساء فدخل نصف الشعب- الذي لم يخطر على بال أحد من قبل- مجالات الممارسة الديموقراطية وأصبحن الآن قوة انتخابية حاسمة الأثر . وتقرر حق الانتخاب للعسكريين فزالت لأول مرة في مصر وصمة التناقض المصطنع غير المعقول التي تحرم الذين يتصدون للدفاع عن الوطن حتى الموت من المساهمة- ولو عن طريق التمثيل النيابى- في اتخاذ القرارات التي يتوقف عليها مصير الوطن ومصير حياتهم أنفسهم . ثم - لأول مرة في مصر أيضاً - أصبح الإنتخاب إجبارياً وان كانت العقوبة على التخلف عنه طفيفة (جنيه واحد) . هذا الاجبار مع ضآلة الغرامة يكشف عن مدلوله الديموقراطي العميق . فقد كان المقصود به حث الذين لا يطيقون الغرامة الضئيلة على ممارسة حقوقهم الديموقراطية . وهم ، نعني الذين لا يطيقون الغرامة الضئيلة ، أغلبية الشعب من الفلاحين والعمال والفقراء لأنهم هم الذين كان عبد الناصر مشغولاً منذ انشاء هيئة التحرير بكيفية الزج بهم إلى خضم الممارسة الديموقراطية وإخراجهم من سلبيتهم الموروثة .

الاتحاد القومي:

أضاف دستور عبد الناصر (1956) شيئاً غير مسبوق على مستوى الفكر الدستوري والممارسة السياسية في مصر. فقد نص على أن : " يكوّن المواطنون اتحاداً قومياً للعمل على تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة ولحث الجهود لبناء الأمة بناء سليماً من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. ويتولى الاتحاد القومي الترشيح لعضوية مجلس الأمة وتبين طريقة تكوين هذا الاتحاد بقرار من رئيس الجمهورية (المادة 192) . و لقد صدرت بتكوينه عدة قرارات متتابعة ( 28 مايو 1957 ، أول نوفمبر 1957، 16 مايو 1959) انتهت إلى أن عضوية الاتحاد القومي أصبحت مقترنة بحق الانتخاب ذاته وتكوين لجانه عن طريق الانتخاب ( القرار 35 لسنة 1959 والقرار 1055 لسنة 1959)...
سوف ينقد عبد الناصر تجربة الاتحاد القومي نقداً مريراً . ولكن إلى أن نلتقي بذلك النقد ونعرف أسبابه دعونا نتأمل الجديد ديموقراطياً في " نظرية " الاتحاد القومي . إن الناخبين ، الذين لم يكونوا يمارسون حرياتهم السياسية كناخبين إلا مرة واحدة كل بضع سنين ثم ينتهي دورهم ، هم أنفسهم يشكلون تنظيماً قائماً دائماً يفرز الذين يرغبون في الترشيح لمجلس الأمة ثم يختار من بينهم من يرى أنهم أهل للترشيح ليتنافسوا في المعركة الانتخابية. وهكذا لم تعد علاقة الناخبين بالمرشحين علاوة وقتية تبدأ بوعود المرشحين ودعاويهم وتنتهي بمجرد أن يتم الانتخاب . لا. أصبح " شعب الناخبين " حاضراً دائماً قبل الانتخابات وفيما بينها وحين عودتها . وعلى من يطمع في أن يرشح أو ينتخب أو يعاد ترشيحه أو انتخابه أن يكسب ثقة الناخبين المنظمين في " الاتحاد القومي " وأهم من ذلك أن يبقى محتفظآ بهذه الثقة . الشعب هنا منعقد بصفة دائمة انعقاداً منظماً قائماً بجوار السلطات الأخرى ، وله حق المتابعة والمناقشة والرقابة والاعتراض ، وله على أعضاء مجلس الأمة حق الجزاء . وأقل جزاء هو عدم الموافقة على الترشيح مرة أخرى .
وهكذا تحول الشعب المنظم في " الاتحاد القومي " إلى سلطة دستورية رابعة. لسنا نحن الذين نقول هذا بل إن القضاء المصري هو الذي اكتشف طبيعته ووافقه في هذا كل شراح القانون . الشعب منظم في تنظيم واحد . تلك هي صيغة هيئة التحرير . الشعب منظم في تنظيم واحد ذي حقوق دستورية . تلك هي صيغة الاتحاد القومي جوهر الحل لمشكلة الديموقراطية هو هو ولكنه يتقدم ديموقراطياً بعد كل خطوة .
بكل المقاييس " النظرية " ، كان دستور 1956 أكثر ديموقراطية من أي دستور سابق لأنه أضاف إلى ما سبق ولم ينتقص شيئاً مما كان للشعب من قبل . وبكل المقاييس " النظرية " كان الاتحاد القومي صيغة أكثر ديموقراطية من كل الصيغ النظم الليبرالية .

التفاؤل :

ولقد كان عبد الناصر فخوراً بما أوفى من وعد، وبما حقق من ديموقراطية ، حتى أنه في حديثه إلى الصحني الهندي كارنجيا- الذي أشرنا إليه من قبل- يكاد يعتبر مشكلة الديموقراطية قد حلت أو وضعت أسس حلها ويتوقع أن تقام على تلك الأسس " في المدى الطبيعي للأمور " حياة ديموقراطية قد لا تخلو من الأحزاب .. وكان عام 1956 هو عام تفاؤل عبد الناصر .
قال في المؤتمر التعاوني يوم 1 يونيو 1956: " قلنا نعمل اتحاداً قومياً . وهذا الاتحاد القومي عبارة عن جبهة وطنية تجمع بين أبناء هذا الشعب .. ستكون للشعب الأغلبية العظمى من هذا الشعب ، الناس الذين حرموا من حريتهم أيام كان هناك برلمانات زائفة كنا كلنا نشكو منها، ونعرف أنها لاتحقق رغباتنا ولا تعمل لصالحنا ولكنها تعمل لمصلحة فئة قليلة من المستغلين أو من الاقطاعيين أو من الحاكمين الذين يريدون حكماً وشهوة وسلطاناً ، هذا الكلام كان في الماضي واليوم في هذه المرحلة الجديدة فلن تكون هناك حرية سياسية للانتهازيين أو الرجعيين أو أعوان الاستعمار إذن الاتحاد القومي يشمل جميع أبناء هذه الأمة ".
وقال يوم 26 يوليو 1957 في الاسكندرية : " هذه الثورة ليست ملك طبقة من الطبقات ولكن هذه الثورة ملك للشعب كله بجميع طبقاته . هذه الثورة لن تقضي على الانتهازية إلا إذا قام فيها مجتمع تعاوني يتعاون فيه العامل مع صاحب العمل . ويتعاون الفلاح في أرضه مع أخيه. تقوم جمعيات تعاونية للفلاحين من أجل أن يقدروا أن يقوموا بعملهم . كل واحد يبحث عن مصلحة نفسه وفي نفس الوقت يبحث عن مصلحة أخيه .. هذا هو السبيل أيها الأخوة وهو الهدف. حياة ديموقراطية سليمة وهو الهدف السادس من أهداف الثورة . وهذا هو السبب الذي من أجله أقمنا الاتحاد القومي وقلنا إن المواطنين جميعاً يكوّنون الاتحاد القومي من أجل بناء هذا الوطن اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً " .
وقال في بني سويف يوم 14 نوفمبر 1958: " هذا هو الاتحاد القومي . اتحاد يجمع بين أبناء الوطن العربي الواحد.. لا انحراف إلى اليمين ولا انحراف إلى اليسار لا تفرقة لا تنابذ وإنما جمع كلمة من أجل رفعة هذا البلد ".
وقال في الاحتفال بالعيد السابع للثورة يوم 22 يوليو 1959: " الاتحاد القومي في معناه وفي انتخاباته كان عبارة عن تمثيل لهذا الشعب . الاتحاد القومي في نتيجته كان عبارة عن تمثيل للشعب فيه المثقفون وفيه العمال وفيه الفلاحون وفيه الموظفون وفيه الذين في المعاشات وفيه كل حاجة. بيمثلنا كلنا.. وكما قلت إن الاتحاد القومي هذا هو عبارة عن الوسيلة التي بواسطتها نريد أن نحقق المجتمع الاشتراكي الديموقراطي التعاوني .. ثم يوم 26 يوليو 1959 : " اننا نكوّن اتحادا قومياً يجمع بين أبناء هذه الأمة، بين أبناء الجمهورية العربية المتحدة نبني تحت راية هذا الاتحاد وطننا...... إلى آخره .
في أقوال عبد الناصر هذه إضافة نامية . فقد بدأ فيها ربط الأسلوب الديموقراطي بهدف التنمية. كانت الوحدة الوطنية التي تمثلها هيئة التحرير لازمة لمواجهة متطلبات معركة التحرير وبقيت الوحدة الوطنية التي يملكها الاتحاد القومي لازمة لمواجهة متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية . كانت غاية هيئة التحرير جذب أغلبية الشعب من السلبية إلى الإيجابية . وجاء الاتحاد القومي يخولها حقوقاً دستورية ويشركها في السلطة... ليصبح لها بذلك الحق ، وعليها الواجب في انجاز متطلبات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية.
وفي ساحة التنمية لا تجدي الكلمات الكبيرة، ولا تفيد الشعارات الرنانة، وتصبح كافة الحقوق والحريات الديموقراطية متوقفة في النهاية على كيفية ممارستها وعلى عطائها العيني .. وفي هذه الساحة، ساحة التطبيق، اكتشف عبد الناصر أخطاء التجربة... ووقف مرة أخرى عند مفترق الطرق : ديكتاتورية أم ديموقراطية؟ واختار مرة أخرى الديموقراطية ... و كلفه اختياره " ثورة " جديدة ، بكل معاني الثورة و أبعا دها..
نعرف أولاً أخطاء التجربة.

(10) النقد... والنقد الذاتي

الخطأ في التجربة :

لقد عاقت تجربة عبد الناصر حل مشكلة الديموقراطية في مصر معوقات كثيرة . منها ما هو اجتماعي مثل التخلف العلمي والديموقراطي الكامن في الشعب نفسه نتيجة سنوات القهر الطويلة ، وتفشي الامية وسيادة القيم القروية الذليلة. ومنها ما هو تاريخي مثل قيام ثورة 1952 بدون تنظيم شعبي نتيجة لطبيعة النظام الذي كان سائدا قبل الثورة . ومنها ما هوحتمي مثل معارك التحرر الوطني وما فرضته من قيود ووضعته من حدود للممارسة الديموقراطية . ومنها ما فرض على الثورة مثل محاولات التآمر عليها وما اقتضته تلك المحاولات من اجراءات صارمة للدفاع عنها. ومنها ما يسأل عنه غير عبد الناصر مثل نكوص القوى والعناصر الوطنية والتقدمية عن مساندة الثورة نتيجة خطأ في تحليل الاحداث وتقييم الثورة ذاتها... وغير ذلك من المعوقات التي لا تدخل في باب " الخطأ في التجربة ".. ذلك لأن من مبررات الثورة ومهامها ان تتغلب على معوقاتها وهو ما يعني ان المعوقات موجودة او متوقعة . كما ان من مهامها ان تتصدى وتسحق أعدائها دفاعا عن نفسها . و لكن الخطأ - كما نعنيه- هو ما وقعت فيه الثورة ذاتها، اما في ادراك مشكلة الديموقراطية او في اكتشاف حلها الصحيح او في أسلوب حلها . وهو ما يعني انه كان من الممكن- موضوعيا - عدم وقوعه . نعني الخطأ.

الخطأ الأساسي:

في أكثر من موضع سابق من هذا الحديث نبهنا الى اختلاط المفهوم الليبرالي للديموقراطية مع المفهوم الاجتماعي في فكر ومواقف عبد الناصر من المشكلة. أقربها الى الذاكرة اختياره الاستقالة من مجلس قيادة الثورة احتراما لرأي الاغلبية ، وهو موقف ليبرالي ، ورفضه الخضوع لرأي الأغلبية وهو موقف غير ليبرالي . كما نذكر دستور عبد الناصر الذي أصدره عام 1956 وجمع فيه نصوص النظام النيابي، وهو نظام ليبرالي ، مع تقييده بالاستفتاء الشعبي والاتحاد القومي و هي صيغ غير ليبرالية .. المهم ان عبد الناصر كان يعالج مشكلة الديموقراطية في مصر، حتى عام 1961، ويجرب حلها ، على ضوء مفهوم اجتماعي للديموقراطية متلبس بجرثومة أو جراثيم المفهوم الليبرالي . وما زالت التجربة، برغم كل مابذل من أجلها من أسباب النجاح، تعاني من تناقضها حتى كادت تجهز على الثورة ذاتها .. لولا ان صححها عبد الناصر بثورة جديدة .
قال عبد الناصر يوم 2 يوليو 1962 وهو يتحدث عن الفترة السابقة : " ان الفكر الثوري في تلك الفترة، وهو يتطلع الى الوحدة الوطنية ويدرك ضرورتها الحيوية داخل الوطن وفي مواجهة الظروف المحيطة به قد وقع في الخطأ حين توهم ان ان الطبقة المحتكرة التي كان لا بد ان تسلبها الثورة امتيازاتها الاستغلالية يمكن ان تقبل الوحدة الوطنية مع قوى الشعب صاحبة المصلحة في الثورة . ولقد كان من أثر ذلك ان محاولات التنظيم الشعبي التي جرت في ضباب هذا الوهم وما حدث داخلها من عوامل الصدام بين القوى الثورية بالطبيعة والقوى المضادة للثورة بالطبيعة ما أصابها بالشلل وأقعدها عن الحركة بل وكاد ان ينحرف بها في بعض الاحيان عن الاتجاه الثوري الاصيل ... "
ان عبد الناصر في هذه الفقرة من أقواله وسنورد من أمثالها كثيرا، لم ينسب الخطأ الى القوى المضادة للثورة، بل اعترف بخطأ توهم الوحدة الوطنية بين قوى الثورة والقوى المضادة للثورة . ولما كان هو القائد المفكر الثوري فانه قد اعترف بوهم غلف التجربة بضبابه فأضل الرؤية الصحيحة.
من أين أتى هذا الوهم؟

وهم المثالية:

ليست المثالية هي التطلع الى مثل أعلى كما توحي الكلمة لبعض الناس . المثل الاعلى قوة جاذبة الى التقدم . أما المثالية فوهم غير علمي لكيفية التقدم . المثل الاعلى يحدد الغاية . والمثالية تتعلق بالاسلوب. والمثالية كأسلوب، تتميز بالتجريد الفكري وانكار الواقع الاجتماعي او تجاهله. الشعب في المثالية او الليبرالية ( اذ الليبرالية نظرية مثالية) هو مجموعة من المواطنين وكل واحد من الشعب هو مواطن .
يقول جورج بوردو في كتابه عن الديموقراطية : ".. والمواطن ليس هو الفرد بجميع خصائصه بما فيها أنانيته وأطماعه وتعصبه الفكري في مواجهة المصالح الدائمة للجموع . بل هو الانسان الواعي المتحرر من الانحياز الطبقي ومن متاعب ظروفه الاقتصادية ، القادر على ان يدلي برأيه في الشئون العامة بصرف النظر عما يفضله لنفسه.. ان المواطن هو ذلك الانسان الذي منحته الطبيعة حرية لا تتأثر بالظروف المتغيرة " .. وقال تارجت : " اذا جردنا العسكريين ورجال الكنيسة ورجال القانون والتجار والمزارعين من مواقفهم التي تحددها مهنهم يصبح كل منهم مواطنا !! ".
وواضح من هذا ان " المواطن " لا وجود له في الواقع . انه مجموعة صفات مجردة . انه مجرد فكرة... وهذه هي المثالية . في هذه الفكرة يستوي الناس ويصبح كل أفراد الشعب سواء ..
ولكن لماذا كان الواقع ان الناس يختلف بعضهم عن بعض طبقا لظروف كل واحد منهم وحصته من عاثد وطنه. فإن صفة المواطن لا تكون لها دلالة الا وحدة الانتماء الى وطن واحد . ثم - فيما عدا ذلك - يختلف الناس اختلافا كبيرا . منهم الحكام والمحكومون الاغنياء والفقراء ، المتعلمون والاميون ، المستغلون وضحايا الاستغلال ، الملاك والمعدمون ، الأذكياء والاغبياء ، الاصحاء والمرضى ، الشيوخ والرجال والنساء والشباب والاطفال .. الى آخره .. ويتدرجون فيما بين تلك الحدود . فلا نكاد نعرف مواطنا شبيها بمواطن اخر. وتصبح مشكلة أي حكم " وطني " هي كيفية ازالة الفوارق او تخفيفها على قدر ما تطيق موارد الوطن الواحد . هنا تكون " المساواة " الشكلية مجرد هروب من الواقع . تكون مثالية. ففيما بين الحاكمين والمحكومين يكون المحكومون وحدهم هم الذين يحتاجون الى الديموقراطية. وفيما بين الاغنباء والفقراء يكون الفقراء وحدهم هم الذين يحتاجون الى رفع مستوى المعيشة . وفيما بين المتعلمين والاميين يكون الاميون وحدهم هم المحتاجون الى التعليم . وفيما بين المستغلين وضحايا الاستغلال يكون الضحايا وحدهم هم المحتاجون الى الحماية .. الى آخره .
ولكن المثالية، جرثومة الليبرالية ، لا تعرف هذا ولا تعترف به . فتبيح كل شيء لكل الناس او تحرم كل الناس من كل شيء ثم تقف الدولة الليبرالية على الحياد خارج وفوق المجتمع وتناقضاته وصراعاته. وهذا الحياد لا يعني شيئا أقل من انحياز الدولة للاقوياء ضد الضعفاء ، للاغنياء ضد الفقراء ، للظالمين ضد المظلومين .. لانها تحجب حمايتها عمن هم في حاجة الى الحماية فتبيح - سلبيا- لمن هم في غير حاجة الى حماية فرصة افتراس الاخرين ...
كيف تبرر المثالية موقفها ؟ .. تبرره مثاليا . تتعامل فكريا مع الافكار . وتتطلب من كل فرد ان ينهض الى مستوى الفكرة الصحيحة ما دام قد وعاها ، فتركز على التوعية وتكتفي باداء الرسالة ئم تدعو الناس الى ان يتخففوا من أثقالهم وان يتغلبوا على معوقات حركتهم . انها تدعو المرضى الى الشفاء ماداموا قد عرفوا انهم مرضى .. ومن لم يفعل " فذنبه على جنبه " .. وهو انكار تام للظروف الموضوعية التي تحول بين كل فرد وبين تحقيق ارادته ، وترغمه على ان يفعل ما لا يعتقد أصلاً انه صحيح . ولماذا يدعي كل اللصوص براءة الذمة ، لأنهم لا ينكرون الامانة فكرة ولكنهم يهدرونها مسلكا.. ولماذا وعد الله بعض " المؤمنين " بجهنم .. لأن الايمان لا يؤدي بالضرورة الى التقوى . أما المثالية فهي تكتفي بالفكرة وتحمل صاحبها مهمة فرضها على الواقع الموضوعي .. انها ، أعني المثالية ، الوجه الثاني من عملة الفشل، أما الوجه الاول فهو المادية .. تنكر الفكرة او تتجاهلها كعنصر في صياغة الحياة الواقعية.. وتفرض على البشر ارادة ظروفهم المادية.
وأرجو الا يسأل أحد : ماذا بقي اذن .. بعد المثالية والمادية ؟.. فان هذا حديث طويل لا يتسع له نطاق هذا الحديث .

مثالية عبد الناصر:

لم يكن عبد الناصر مثاليا خالصا حين قامت الثورة وتصدى لحل مشكلة الديموقراطية في مصر. فما نزال نذكر موقفه العدائي من الديموقراطية الليبرالية وموقفه الديموقراطي من الشعب ، ورؤيته الناضجة للعلاقة بين التبعية الاقتصادية للاقطاعيين ومشكلة الديموقراطية عند الفلاحين ، ورؤيته الجنينية للعلاقة بين الظروف الاجتماعية والحرية . وكان من نتائج ذلك الموقف المختلط ان أنجز- بذات الدرجة من الحماس- أمرين متناقضين :
أما الأول : فهو مشروعاته لحل مشكلة الديموقراطية : الأصلاح الزراعي ، منع الفصل التعسفي . هيئة التحرير، دستور 1956، السلطات الدستورية التي تقررت للتنظيم الجماهيري ، تنظيم الجماهير في الاتحاد القومي ، توسيع حقوق الأنتخاب ومضاعفة أعداد من لهم هذا الحق .. الخ .
أما الثاني : النقيض ، فهو اباحة تلك المشروعات " لكل المواطين " وترك المنافسة الحرة بينهم تضع كل قادر منهم في الموضع الذي تصل اليه قدرته وتبقي كل عاجز منهم في موضع عجزه . وضع الفلاحين في الريف في حلبة المنافسة الحرة على الجمعيات التعاونية وخدماتها مع الملاك .
أنشأ هيئة التحرير وجمع فيها كل الناس ثم ترك لهم حرية المنافسة على قيادتها . حوّلها الى اتحاد قومي ومنحه سلطات دستورية ثم ترك الناس- كل الناس- فيه يتنافسون على قيادته وعلى استعمال تلك الحقوق الدستورية. وجّه اليهم جميعا نداء " ارفع رأسك يا أخي لقد مضى عهد الاستعباد " وترك للمنافسة الحرة مهمة اختيار من يرفع رأسه ومن ينكسها .. الى آخره.. ثم بقي على الحياد . لأن الثورة التي كانت ما تزال تحتفظ بجرثومة المثالية الليبرالية كانت ترى فيهم جميعا " المواطنين " ولم تر البشر الواقعيين فجمعت بين الوحوش والفرائس في نطاق واحد ، فانطلقت الوحوش على الفرائس وفرض القوي ارادته. ولم يكن من الممكن ان تكون النتيجة غير ذلك ... مهما تكن النوايا حسنة.
ولقد تجلى هذا الاتجاه المثالي الليبرالي في خطب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في تلك الفترة كما لو كان قد كفى الشعب استبداد الاقطاعيين وسيطرة الرأسماليين وأوفى بوعده ، وأصدر لهم دستورا ثم نظر اليهم نظرة واحدة تدعوهم الى المحبة والوحدة والتعاون في سبيل الوطن …
تجلى هذا اولا في تصوره ان الحرية مقدرة ذاتية على كل واحد ان يكسبها لنفسه بصرف النظر عن ظروفه الواقعية . قال في منيا القمح يوم 30 نوفمبر 1953: " اننا نهتف دائما بالحرية ونهتف بالعزة وليست العزة كلاما او هتافا و ليست الحرية أوهاما ينادى بها بلا وعي . ولكن الحرية هي التحرر من العبودية ومن الخوف ومن الفزع أفرادا وجماعات . لقد عشنا سنين طويلة تحدثنا فيها طويلا عن الحرية ولم نحقق منها شيئاً . فقد كانت الحرية وعودا وكلاما وصياحا أما اليوم فاذا قلنا الحرية فنحن نعني حرية القلوب وحرية النفوس وحرية العقول وهي كلها تتلخص في التحرر من الخوف الا من الله الذي خلق العالمين .. ".
نعم ولكن كيف ؟ كيف يتحرر الخائف من خوفه
وقال في المؤتمر الوطني بجامعة القاهرة يوم 3 ديسمبر 1953 : " ان العامل الاول للحرية هو التجرد التام من روح الاستعباد وروح الخوف والفزع ويجب ان يكون الحاكم والشعب قوتين متعادلتين فاذا لم يكن الشعب قويا فان الحكم لا يكون عادلا ، ولكي يكون الشعب قويا يجب ان يكره الاستبداد وينفر من الاستعباد ولا يعرف للخوف والفزع معنى" .
نعم ولكن كيف؟.. كيف يؤدي النفور من الاستعباد الى القوة ؟
وقال في فرع هيئة التحرير بالوايلي يوم 7 ديسمبر 1953:
" اننا الآن نلقي جميع الاوزار على الحكام السابقين وحدهم وأريد ان أقول ان أي حاكم اذا ترك وحده لن يستطيع ان يتغلب على نزعات نفسه والنفس أمارة بالسوء ولهذا يجب ان يكون الشعب متيقظا متسلحا بالمعرفة. وكلنا نعرف اننا كنا نحكم حكما ديموقراطيا له برلمان وكان له دستور ووثيقة تقول الامة مصدر السلطات . وهذه الامة كانت ضحية السلطات . اننا نريد اليوم لهذه الامة ان تكون مصدر السلطات وهذا لن يتأتى الا بالمعرفة والتيقظ ومعرفة كل فرد حقوقه وواجباته ".
نعم ولكن كيف؟.. كيف تؤدي معرفة الحق الى الحصول على الحق ؟

وقال في حفل كلية أركان الحرب يوم 29 نوفمبر 1954:

" ان العزة والكرامة كانتا دائما جزءا من الشعب واننا إذ نقول ان هذه الثورة أقامت العزة وأقامت الكرامة فإنما نعني ان هذه الثورة ثبتت العزة والكرامة وجعلتهما حقيقة واقعة لأن هذا الشعب كافح طويلا من أجل عزته ومن أجل كرامته واستشهد منه من استشهد وشرد منه من شرد من أجل هذه الكرامة التي كنا نراها دائما في الصدور وكنا نراها في النفوس التي كانت دائما تمثيلا خفيا او ظاهرا في كل فرد من أبناء الوطن " .
نعم ولكن كيف؟.. كيف تؤدي العزة الكامنة في الصدور الى الديموقراطية؟ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة