الشيخ :
إن من الصفات الحميدة والخلال الجميلة التي يتصف بها أهل الجنة سلامة
صدورهم من الغل والحسد والبغضاء والكراهية؛ حيث بين تبارك وتعالى في محكم
كتابه أن من أنواع النعيم التي يتقلب فيها أهل الجنة سلامة صدورهم؛ حيث
جعل قلوبهم خالية مما يكدرها؛ وسالمة مما يفسدها؛ وذلك لكمال نعيم الجنة؛
فقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا
لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ
جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ
أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف: 43].
وهذه المنزلة العالية والمنقبة الفاضلة والسعادة النفسية قد اتصف بها
بعض عباد الله المؤمنين في هذه الدنيا قبل التنعم بها في الآخرة فضلاً من
الله ونعمة؛ وذلك من عاجل بشرى المؤمن؛ فكان جزاؤهم أن جوزوا بمثلها في
دار القرار والنعيم المقيم.
فقد روى الإمام أحمد في المسند والنسائي في الكبرى وغيرهما بإسناد صحيح
عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ " فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَنْطِفُ
لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ
الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ
الْمَرَّةِ الْأُولَى.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ
الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ
عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى
تَمْضِيَ فَعَلْتَ ؟
قَالَ: نَعَمْ .
قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ
تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ
شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ
ذَكَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ
الْفَجْرِ .
قَالَ عَبْدُ اللهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا
خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْقِرَ
عَمَلَهُ.
قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي
غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: " يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ
الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ " فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ
مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ،
فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ.
فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ . قَالَ:
فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ،
غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ.
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ.
ومن خلال هذا الحديث يتبين ما لمنزلة سلامة الصدر من مكانة؛ إذ بلغت
بهذا الصحابي الجليل إلى تلك المنزلة العالية؛ حيث بُشر بالجنة وهو ما زال
حياً في هذه الحياة؛ جرّاء هذا العمل العظيم؛ وإن كان في الظاهر أنه هين.
وقد استغرب عبد الله بن عمرو لما بات عنده ولم ير له كثير قيام أو
صيام؛ وإنما هو كسائر الناس؛ مما يدل على أن نظرة الصحابة إلى أن كثرة
الصلاة والصيام هو أعظم ما يبلغ بالعبد الوصول إلى الجنة؛ وهذا الأمر وإن
كذلك صحيحا؛ لكن بيّن هذا الحديث أن بلوغ الجنة قد يدركه العبد بعد توفيق
الله تعالى بغير تلك الأعمال الظاهرة الجليلة.
وسلامة القلب منزلة رفيعة لا يبلغها إلا القلة من الأصفياء؛ ولذلك ورد الحث عليها من كلام السلف رحمهم الله.
فعن سفيان بن دينار قال : قلت لأبي بشير وكان من أصحاب علي : أخبرني عن
أعمال من كان قبلنا ؟ قال : كانوا يعملون يسيرا ويؤجرون كثيرا. قلت: ولم
ذاك ؟ قال : لسلامة صدورهم .
وعن زيد بن أسلم قال: دُخل على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض وكان
وجهه يتهلل فقيل له : ما لوجهك يتهلل ؟ فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من
اثنتين. أما إحداهما: فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني ، وأما الأخرى فكان
قلبي للمسلمين سليما.
وقال قاسم الجُوعي رحمه الله تعالى : أصل الدين الورع ، وأفضل العبادة مكابدة الليل ، وأقصر طرق الجنة سلامة الصدر.
وسليم القلب من أفضل الناس عند الله تعالى، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو رضي الله عنهما ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " كُلّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ،
صَدُوقِ اللِّسَانِ ". قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ ، نَعْرِفُهُ. فَمَا
مَخْمُومُ الْقَلْبِ ؟ قَالَ: " هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ. لاَ إِثْمَ
فِيهِ وَلاَ بَغْيَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ ". رواه ابن ماجه.
وإن مما يمنع العبد الوصول إلى هذه المنزلة الرفيعة والمكانة العلية هو
التنافس البغيض على حطام هذه الدنيا والتكالب عليها؛ لأن سالم الصدر وطاهر
القلب لا يعبأ بهذه المظاهر الخادعة؛ ويعلم أنها كسحابة صيف سرعان ما
تذهب؛ والتنافس الحقيقي إنما يكون على الاستحواذ على منازل الآخرة؛ والفوز
بالنعيم المقيم الذي لا يزول ولا يحول؛ وفي ذلك ورد الأمر الشرعي بالتنافس
والمسابقة فيه كما قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 22 -26]؛
وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل
عمران: 133].
ومن أعظم ما يعين على الوصول إلى سلامة الصدر؛ وطهارة القلب؛ الرضى
بقضاء الله وقدره؛ ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه؛ وما أخطأه لم يكن
ليصيبه؛ فالخلق ليس في أيديهم نفع ولا ضر حقيقي إلا بمشيئة الله وإرادته؛
لأنهم لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء لم يكتبه الله لم ينفعوا العبد به؛
وإن اجتمعوا على أن يضروا بشيء لم يضروا بشيء لم يكتبه الله.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين (2/207) : " إن الرضى
يفتح له باب السلامة فيجعل قلبه سليما نقيا من الغش والدغل والغل ولا ينجو
من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم كذلك وتستحيل سلامة القلب مع
السخط وعدم الرضى وكلما كان العبد أشد رضى كان قلبه أسلم فالخبث والدغل
والغش: قرين السخط وسلامة القلب وبره ونصحه: قرين الرضى وكذلك الحسد: هو
من ثمرات السخط وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى ".
ومما يعين على الوصول لسلامة الصدر أن يحب المرء لإخوانه المسلمين كما
يحب لنفسه؛ ويستحيل بالمرء أن يحب لنفسه الهلاك أو زوال النعمة أو وقوع في
مهلكة؛ فكما لا يحب لنفسه ذلك؛ فكذلك يجب أن يحب لإخوانه المسلمين ذلك.
وهذه الصفة الحميدة من أعظم ما يجلب سلامة الصدر وراحة البال وطمأنينة
النفس؛ ولذلك لا يبلغ العبد كمال الإيمان إلا إذا اتصف بهذا الخلق الكريم
كما روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ
مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
وبذلك يتبين أن مبتغي الهلاك للمسلمين أو من يجر لهم المصائب في دينهم ودنياهم لم يكن بالمؤمن الكامل الإيمان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (10/ 128) " وقد
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس أيضا
"والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقد قال
تعالى ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ
شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ
لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ
مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) (النساء:73) فهؤلاء المبطئون لم
يحبوا لإخوانهم المؤمنين ما يحبون لأنفسهم، بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا
باختصاصهم وإن أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها بل أحبوا أن يكون لهم منها
حظ، فهم لا يفرحون إلا بدنيا تحصل لهم أو شر دنيوي ينصرف عنهم، إذ كانوا
لا يحبون الله ورسوله والدار الآخرة، ولو كانوا كذلك لأحبوا إخوانهم
وأحبوا ما وصل إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة، ومن لم يسره
ما يسر المؤمنين ويسوؤه ما يسوء المؤمنين فليس منهم، ففي الصحيحين عن عامر
الشعبي قال سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد
الواحد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
فسلامة القلب من الغل والحسد والبغضاء والكراهية من أعظم أسباب السعادة
في هذه الدنيا؛ ومن أقصر الطرق للوصول إلى سعادة الآخرة والفوز بالجنة؛
جعلنا الله وإياكم من اهلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق