الاثنين، 23 أبريل 2012

تغيير المنكر

 عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم (1).

تخريج الحديث : ـ

هذا الحديث خرجه مسلم من رواية قيس بن مسلم عن طارق بن شهبان عن أبي سعيد ، ومن رواية إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد .
دروس وعبر من كلام سيد البشر

ـ
الفقهية : ـ

يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يلي : ـ

1ـ أن يكون المنكر مجمعا عليه أو مختلفا فيه ، ومقترفه يرى تحريمه ، أما إذا كان يرى حله ، أو يقلد من يقول بذلك فلا . ففي شرح العلامة الدرديري ما نصه : ويشترط في النهى عن المنكر أيضا : أن يكون مجمعا عليه ، أو مختلفا فيه ، ومرتكبه يرى تحريمه ، لا إن كان يرى حله أو يقلد من يقول بالحل.
2ـ أن يكون متفقا عليه : ففي ( شرح المواق ) ما نصه : وكان سيدي ابن سراج يقول : إذا جرى الناس على شئ له مستند صحيح ؛ وكان للإنسان مختار غيره لا ينبغي أن يحمل الناس على مختاره فيدخل عليهم شغبا في أنفسهم ، وحيرة في دينهم ؛ إذ من شرط التغيير أن يكون متفقا عليه . اهـ .
وانظر قول عياض في ( الإكمال) : لا ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يحمل الناس على مذهبه ، وإنما يغير ما اجتمع على إحداثه وإنكاره . وشرح هذا أيضا محيى الدين النووي في منهاجه ، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه وليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نص القرآن أو السنة أو الإجماع ونحو هذا في جامع الذخيرة للقرافي ، ونحوه في قواعد عز الدين.
3ـ أن يكون المنكر مخالفا للقرآن أو السنة أو الإجماع (2).
4ـ ألا يكون إنكار المنكر يؤدي إلى التحريم .
5ـ أن يكون إنكار المنكر والأمر بالمعروف في حالة الوجوب ؛ لأنه قد يكون مندوبا فحسب ، كما فصل ذلك العلامة البيجوري ـ رحمه الله ـ في (شرح الجوهرة) فقال : فيندب الأمر بالمندوب ، والنهي عن المكروه ، ويجب الأمر بالواجب والنهى عن الحرام ، فالمكروه لا يشدد في النهى عنه كما يشدد في النهى عن الحرام طبعا.

الاجتماعية : ـ

أ ـ الإسلام عكس النظم الاجتماعية الأخرى التي يسود فيها قانون الغاب ، والسيادة مكرة على الأقوياء سواء كانت القوة مالية ، أو إعلامية ، أو حزبية ، بل يحرص النظام الاجتماعي الإسلامي على أن يكون البقاء فيه للأصلح والأطهر؛ لأنه مجتمع نظيف طاهر لا مكان فيه للأمراض الاجتماعية الخطيرة ، ولا يعيش بينه مجرم محترف.
ولعل الفضل في ذلك كله لا يعود إلى الحدود والقصاص قبل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنها هي التي تكتشف المرض وتقاومه في مهده قبل استفحاله وانتشاره .
ب ـ من أهم الأسباب في إفلاس النظم الاجتماعية الأرضية إهمالها لقاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التي هي خاصية من خصائص النظام الاجتماعي الإسلامي ، والإسلام بهذه القاعدة يشرف الإنسان ويكرمه ويرفعه إلى درجة سامقة ، ألا وهي درجة الاستخلاف في الأرض فهو المنكر لما أنكره الله ، والمتقبل لما يعترف به الإسلام .
إذا فالمسلم له كلمته وله وزن في هذا الكون ؛ لأنه يمثل عدالة الله ، وهذا غاب عن ملائكة الرحمن حين قال الله لهم : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة :30] .
ج ـ إن الإنكار بالقلب لا يقف عند حد الانقباض في النفس والاستياء ، بل له
وقعه وسلطانه إن فسر هذا التفسير القرآني : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } [ النساء : 140].
إنه المقاطعة الجماعية لأرباب الفسق والفجور ، وها هو القرآن الكريم يصور لنا الحالة النفسية الحرجة ، والمأزق المتأزم الذي وقع فيه الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك مع رسول الله وهم : كعب ، وهلال ، ومرارة . قال تعالى : {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } [ التوبة :118] ، لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقاطعتهم وعدم مجالستهم حتى كان الواحد منهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه ، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم وأهملوهم حتى تاب الله عليهم .
د ـ الأمة التي تتغاضى عن المنكرات ، وتعايش أرباب المعاصي وتتعامل معهم بلا تحفظ أمة تحارب الله ورسوله ، وهي مشتركة مع فجارها بسكوتها وإقرارها ، قال تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [الأنفال: 25 ] ، وصدق الشاعر في قوله :
بنو ثقيف ألا فانهوا سفيهكم 00 إن السفيه إذا لم ينه مأمور
وهي بذلك تسعى في خرابها ، وتعمل على تقويض بنائها كما فعلت من قبل بنو إسرائيل . قال ربنا سبحانه : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } [ المائدة :78 ، 79 ] .
هـ ـ لقد ضمن الإسلام حرية الفرد إذا لم تكن على حساب حريات الآخرين ، كما راعى حرمة بيته وصانها من أن تكون عرضة للمداهمات والتسور والتجسس ، قال تعالى : { ولا تجسسوا } [ الحجرات : 12].
إذا فالتجسس كما قلت على عورات الناس والتطلع إلى أسرارهم حرام في الإسلام ، اللهم ما استثناه الماوردي : من ذلك ما إذا أخبره من يثق بقوله : إن رجلا خلا برجل ليقتله ، أو امرأة ليزني بها ؛ فإنه يجوز له في مثل هذه الحالة أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدركه .
وللمتهالكين على القوانين الغربية المبهورين بالمجتمعات الأوربية أسوق ما ذكر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه مشى بالليل فرأى نارا في بيت فأتى إليها فإذا قوم يشربون ، وشيخ بينهم فاقتحم عليهم وقال : يا أعداء الله أمكن الله منكم . فقال الشيخ : ما نحن بأعظم منك ذنبا يا أمير المؤمنين ؛ إن عصينا الله في واحدة فقد عصيته أنت في ثلاث . فقال له عمر : وما هن ؟ فقال : تجسست وقد قال الله تعالى : { ولا تجسسوا } [ الحجرات :12] ، وأتيت البيوت من ظهورها وقد أمر الله تعالى بإتيانها من أبوابها ، ودخلت بيتا غير بيتك من غير استئذان ولا تسليم وقد أمر الله تعالى بذلك ؛ فاحتشم عمر وقال : صدقت ، استغفر لي ! فقال الشيخ : غفر الله لنا ولك .
وقد كان الحسن البصري يقول : إياكم والتجسس ، فوالله لقد أدركت ناسا لا عيوب لهم فتجسسوا على عيوب الناس ، فأحدث الله لهم عيوبا .

فقه الدعوة

1ـ الدعوة إلى دين الله وإلى نبذ الشركاء والطواغيت ليست حرفة يحترفها من يحترفها تكسبا واسترزاقا ، وليست منصبا يتفاخر به المتفاخرون ، ويتباهون بمقعده الوثير ومرتبه الوفير ، بل هي مسؤولية كبرى وأمانة عظمى .
الداعية المخلص أعرف الناس بثقلها وجسيم تبعاتها ؛ لذا يسعى هذا الصنف دوما أن يكونوا شموعا تحترق لتضئ على البشرية ، ويفجرون من أجسادهم ينابيع الدماء الزكية لتسقي شجرة العقيدة الإسلامية ، ولله در ذلك الداعية المخلص حين قال :
وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله وأن لحمي قرض بالمقاريض .
كما كان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز يقول لأبيه : وددت أني غلت بي وبك القدور في الله تعالى .
ما كانت هذه التضحيات لتكون لولا أن سيد الدعاة ورسول الهداة عليه السلام جسد هذا الفداء في أروع صوره حين كانت الدماء تنهمر من وجهه الشريف يوم أحد ، ومع كل هذا ظل يدعو لأعدائه : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " صلي عليك الله يا علم الهدى .
2ـ إن سلاح الداعية ليس هو السيف ، بل هو الحكمة . قال تعالى : {ادع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل :125] وكثير ما يكون للحكمة والأسلوب المهذب أبلغ الأثر في تغيير المنكر وصرف فاعله عن وجهته بالرفق ، وهذا غالبا ما يجدي مع ذوي الهيبة والوقار وأرباب الحكم والسلطان . روى أن رجلا من الصحابة أكثر شرب الخمر بالشام فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه فكتب له : { حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير } [ غافر :1 ـ 3 ] ، فترك الرجل الخمر وتاب ، وحكى التاج السبكي عن أبيه أنه كان يجتمع ببعض الأمراء ، وكان الأمير يلازم الحرير فقال : يا أمير بكم الذراع من هذا ؟ فقال : بدينار ، فقال : في الصوف ما يساوي كل ذراع منه دنانير ومماليك وخدمات يشاركونك في لبس الحرير ولا يليق بشهامتك أو يساورك فاعدل إلى الصوف ؛ فإنه أعلى وأغلى مع ما فيه من السلامة من العقاب الأخروي فاستحسن كلامه ، ولو قال له ابتداء : هذا حرام لم يفد.
3ـ انطلاقا من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان أو أمير جائر " (3) .
وقف العلماء والدعاة المخلصون في وجه الجور والظلم وكانوا بجرأتهم كالسد في وجه السيل العرم . وذي بعض الأمثلة :
ـ أخرج مسلم في حديث طارق قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، فقام إليه رجل فقال : الصلاة قبل الخطبة ، فقال : قد ترك ما هنالك ، فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه ، ثم روى هذا الحديث ـ الذي هو موضوع البحث .
ـ والدارس للتاريخ الإسلامي يجد الكثير من هذه المواقف الفياضة بالشجاعة الإيمانية كمواقف سعيد بن المسيب مع الحجاج بن يوسف الثقفي ، والإمام مالك مع الخليفة المنصور ، والعز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء ، وابن باديس ومواقفه الصريحة من الاستعمار الفرنسي . . . وغيرهم كثير.


تطبيق

ــ
1ـ يعاني الفرد المسلم اليوم في كثير من المجتمعات الإسلامية انفصاما خطيرا في شخصيته نظرا للتباين الكبير بين مبادئه ومعتقداته وبين ما يجري حوله ، بين ما يقول وما يفعل ، بين ما يتصوره عن الإسلام وما يلمسه في المسلمين ، بين ما يسمعه بالمسجد أو المدرسة وما يتعامل به في المتجر والمصنع والبيت والشارع ، يعيش في دوامة هذا التناقض بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه ، بل وربما بين ما بداخله وما بخارجه ، ومنشأ هذا في اعتقادي الرضا بالمنكر وتجاهل المعروف وعدم الأمر به ، ومن ثم عدم ائتمار الآمر بالمعروف وانتهاء الناهي : {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } [البقرة :44]
2ـ الكثير من مجلات العالم الإسلامي وصحفه شيطان أخرس ، إذ تخوض هذه الوسائل الإعلامية في كل مجال الدين الإسلامي ، اللهم إلا بعض الفقرات في بعض أعمدة تكرس الشريعة الإسلامية في الأخلاق فحسب ، وربما تطرقت إلى الخلافات الفقهية والعراكات الكلامية ، ولكنها عما يجري في عالمنا الإسلامي عمياء ، وعن واقع المسلمين وما يحاك للدعوة الإسلامية من الغرب والشرق خرساء بكماء .
إننا لم نسمع عن أزمة المسلمين في بلغاريا ، ومحنهم في الفلبين ، وفي إريتريا ، واندونيسيا ، إلا من بعض أجهزة الإعلام الغربية ، بكاية بالكتلة الشرقية أو العكس ، ولم تنبس كثير من وسائل إعلامنا العربية أو في ديار الإسلام ببنت شفة ولو بقول : اللهم إن هذا منكر .

****

المراجع والهوامش
ـ
1ـ منكرا : ما أنكر الشارع فعله كالزنا ، أو تركه كالصلاة .
بلسانه : الإنكار باللسان يكون بالوعظ وإسداء النصح أو الزجر أو الاستغاثة ، أو رفع القضايا إلى المحاكم .
بقلبه : أي ببغض المنكر وفاعله ، والتمني لو كان بوسعه شئ حتى يزيله .
2ـ من القواعد الأصولية عند الإمام الشافعي .
3ـ رواه أبو داود ،واللفظ له ، والترمذي ، وابن ماجه كلهم عن عطية العوفي عنه ، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب" .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة