السبت، 28 أبريل 2012

موقف المسلم عند الفتن

الشيخ : إبراهيم بن محمد الحقيل

يتحتم على المؤمن مراجعة إيمانه، ومحاسبة نفسه بين وقت وآخر، ولا سيما في أوقات الفتن والمحن والابتلاءات، وأحوال علو الكافرين وطغيانهم، وظهور المنافقين وافترائهم، وضعف المؤمنين وانزوائهم، وذلك لئلا تميد بالمسلم الفتن فتخرجه من دينه أو تجعله يسيئ الظن بربه، فيظن أن ـ الله - تعالى - ـ لا ينصر أولياءه ولا يكبت أعداءه، وأن القوة المادية المحسوسة فوق كل قوة، وأنه لا اعتبار بعالم الغيبيات، وإذا تمادى به الظن السيئ إلى هذا الحد فيُخشى عليه من إنكار الغيب، ومن ثم إنكار الخالق جل جلاله، ونعوذ بالله ممن يكن هذا حاله!



ومن الناس من يتخلى عن دينه لا شكاً فيه وفي وعد ربه - تبارك وتعالى - ولكنه يستبطئ ذلك، فيتفلت من الأوامر والنواهي شيئاً فشيئاً، ويوجد لنفسه الأعذار والمسوّغات حتى يخرج من الإسلام وهو لا يشعر، ولا سيما إذا صاحب الفتن موجات من السخرية بالدين وأهله، ووصفهم بالأوصاف التي تنفر الناس منهم، وتجعلهم عرضة للإيذاء والابتلاء، كما هو الواقع في هذا الزمن من اتهامات باطلة للإسلام والمسلمين المتمسكين بدينهم، المعظمين لشعائره، المحافظين على ســننه وأحكامــه؛ إذ يوصفــون في الإعــلام العالمي ـ اليهودي والنصراني ـ والعلماني العربي بأوصاف تجرّمهم، ويُتهمون بتهم تخوّف الناس منهم، وذلك بقصد صرف الناس عن دينهم، وتخويفهم منه ومن شريعته، واستبداله بدين آخر ممسوخ تم صفه وإعداده في الدوائر السياسية والمؤسسات الأكاديمية الغربية، وتلقفه العلمانيون العرب، وعملوا له الدعاية في وسائل الإعلام المختلفة، وليس في هذا الدين الجديد حرام، ولا له حدود، ويؤمن بالحرية والديمقراطية وبكل المقررات العلمانية. إنهم باختصار يريدون أن يكون ديننا كدين النصارى الذي ما بقي منه من كثرة التحريف والمسخ إلا بعض الوصايا الأخلاقية التي ينطق بها رهبانهم على استحياء.



* أسئلة مهلكة:

إن من الناس من صاروا يتساءلون في الصحف والفضائيات، بعضهم يلمح وبعضهم يصرح بطريقة أو بأخرى، قائلين: أين رحمة الله - تعالى - بعباده المؤمنين الذين التزموا دينه، وأقاموا شريعته في أنفسهم وأهليهم ورعاياهم، واختاروا الإسلام الحق الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - دون ما سواه! ها هم يوصمون بالتطرف والإرهاب وبكل نقيصة، ويوصفون بما ينفر الناس منهم!!



ها هم أولاء في بلاد الأفغان قد قُتلوا، وأُخرجوا من ديارهم، وشُردت أسرهم، واغتصب نساؤهم، وعذبوا واضطهدوا، وفقدوا مقومات الحياة من الأمن والطعام والكساء والمأوى. فأين رحمة الله - تعالى - بهم!!



وأين رحمة الله - تعالى - بأهل فلسطين وقد فعل بهم اليهود والنصارى ما فعلوا؛ من هدم ديارهم عليهم، وإتلاف زروعهم، ومصادرة أراضيهم، واعتقال أبنائهم، واغتيال النشطاء منهم، ولا سيما من يرفعون لواء الإسلام، وينادون به حلاً لقضيتهم.



وأين هي رحمة الله - تعالى - بالمسلمين في بلاد الشيشان المنكوبة التي يعيش نساؤها وأطفالها في مخيمات جليدية، لا يجدون أمناً ولا طعاماً ولا كساءً؟! وأين هي نقمة الله - تعالى - على أعدائه: اليهود والنصارى والهندوس والمنافقين؟! وأين كانت رحمة الله - تعالى - من قبل بالمسلمين الذين قُطعت أجسادهم واغتصبت نساؤهم، ويتُمت أطفالهم في البوسنة والهرسك وكوسوفا وكشمير والفلبين وبورما، وتيمور الشرقية وغيرها، ولا يزال من عذبوهم وسحقوهم يسرحون ويمرحون، وربما يقومون بمذابح جديدة، ويخططون لمصائب تنال المسلمين كما يفعل طاغية اليهود شارون؟!



إنها أسئلة بدأ المنافقون الماديون الذين لا يؤمنون بالله - تعالى -، وينكرون الغيب يلقونها بطريقة أو بأخرى عبر كثير من المنتديات الإسلامية؛ ليشككوا الناس في رحمة ربهم، بل في وجوده - تبارك و تعالى -، داعين إلى تحرير العقول مما يسمونه: خرافات دينية، وأطروحات عاطفية، وأحلام يقظة وردية، - تعالى - الله عن إفكهم وكفرهم علواً كبيراً.



وهذه الأسئلة ومثيلاتها ترد على قلوب ضعاف الإيمان عند كل نازلة تنزل بالمسلمين، ومصيبة تحل بهم، لكن ألسنتهم تعجز عن النطق بها؛ لأن ما في قلوبهم من إيمان ولو كان ضعيفاً يحفظ ألسنتهم من نطقها. ونعوذ بالله العزيز الحكيم من أن تلفظها أفواهنا، ونعتصم به - تبارك وتعالى - من أن ترد على أذهاننا، أو تنكت في قلوبنا؛ لأنها أسئلة مكتوبة على بوابة الإلحاد والزندقة، لا ترد على قلب عبد وينطق بها لسانه إلا ولج البوابة التي من دخلها لا يرجى خروجه منها إلا أن يرحمه الله - تعالى - بتوبة يرزقه إياها، فتصله قبل أن يصل إلى النار. وإلا فكيف ترد هذه الأسئلة ومثيلاتها على قلب مؤمن يوحّد الله - تعالى -، ويؤمن بوعده، ويعرف أسماءه وصفاته؟!



* ربنا أرحم بنا من أنفسنا:

ربنا ـ جل جلاله ـ قد وسع كل شيء رحمة وعلماً، فوسعت رحمته كل شيء، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وهو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو - تعالى - أعلم بمصلحة العبد من نفسه.

والرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بالعبد من شق عليه في إيصال مصالحه، ودفع المضار عنه، ولهذا كان من رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على عباده المؤمنين من القتل والتعذيب والحرق والأسر والحبس والتهجير والجوع والخوف ونحو ذلك من البلايا؛ مما هو مشاهد في بلاد الأفغان على أيدي الأمريكان وحلفائهم، وفي الشيشان على أيدي الروس، وفي فلسطين على أيدي اليهود، وفي الهند على أيدي الهندوس، ومن قبل في البوسنة وكوسوفا على أيدي الصرب، وستظل هذه السلطة متصلة ما دام للأعداء قوة، وما دام المسلمون في ضعف.



وهذا الابتلاء للمسلمين هو من رحمة الله - تعالى - بهم، وهو من أعظم ما يحقق المصالح الدائمة لأولياء الله - تعالى - وأحبابه في الدنيا والآخرة،

ومن أهم تلك المصالح:

1 - التوبــة والإنابـة والرجــوع إلى الله - عز وجل - : كما قال ـ سبحانه ـ: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْـحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، فما يصيب المسلمين في أقطار كثيرة في هذا العصر من الأذى والقهر والتسلط من قِبَل أعدائهم؛ ما هو إلا من الابتلاء بالسيئات لعلهم يراجعون أنفسهم، ويعودون إلى دينهم، ويتعلقون بجانب ربهم - تبارك و تعالى -.



2 - استخراج الدعاء: فلولا هذه المصائب العظيمة التي نزلت بالمســـلمين لما ســمعت الخطباء في الجمع يجأرون إلى الله - تعالى - بالدعاء لإخوانهم المسلمين المنكوبين، وكذلك يفعل أئمة المساجد في قنوت النوازل، والمحاضرون في ختام محاضراتهم، بل حتى اللقاءات الدعوية والحوارية في بعض القنوات الفضائية، صار ضيفوها يختمون برامجهم بسؤال الله - تعالى - أن يكشف الكربة، وينصر المسلمين. وهذا من أعظم المصالح التي تحصل بسبب الابتلاءات، وقد بين الله - تعالى - أن هذا من مقاصد الابتلاءات التي تحصل للبشر، كما في قوله ـ سبحانه ـ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]، فالبأســاء والضـراء التي أصابت ـ ولا تزال تصيب ـ إخواننا في فلسطين وأفغانستان وكشمير والهند والشيشان وغيرها تسـتخرج التضـرع منهم، وتلجئهم إلى التعلق بالله ـ - تعالى - ـ ودعائه والانطراح بين يديه، بل إن كثيراً من المسلمين الذين يشاهدون عذاب إخوانهم تأثروا بذلك، لجأ كثير منهم إلى الله - تعالى -، وصاروا يكثرون من الدعاء والتضرع، وهذا مصلحته عظيمة لأهل البلاء خاصة، ولكل الأمة عامة؛ لأن الدعاء من أعظم العبادات التي يحبها الله - تعالى -. قال وهب بن منبه - رحمه الله تعالى - : «ينزل البلاء ليستخرج به الدعاء»(1)، وقال سفيان بن عيينة - رحمه الله تعالى - : «ما يكره العبد خير له مما يحب؛ لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه»(2). وقد قيل: «مصيبة تقبل بها على الله خير لك من نقمة تُنْسيك ذكر الله»(3).



3 - كشف المنافقين وفضحهم: فإن الأمور إذا استقامت للمسلمين، واستقر لهم الأمن، ولم يكن ثمة مخاطر تحيق بهم؛ دخل فيهم من ليس منهم من المنافقين وعبّاد الدنيا والمصالح الذاتية، ولا يبين حينئذ من هو صادق في إيمانه موقن بإسلامه مهما كانت النتائج، ممن يظهر الإسلام ويقيم بعض شعائره؛ لأنه أمام المسلمين، ولأن ضرورة العيش معهم تقتضي مسايرتهم ومجاملتهم.



وهذه الأحداث المعاصرة التي ابتدأت بانتفاضة الأقصى، ثم زاد اشتعالها في أحداث أفغانستان وباكستان والهند، قد أظهرت للمسلمين من كانوا في داخل الصف وقلوبهم مع الأعداء، وقد قال الله - تعالى - عقب غزوة أُحد: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179].



وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - تعليقاً على هذه الآية: «أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما ميزهم بالمحنة يوم أُحد، وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز به بين هـــؤلاء وهــؤلاء، فإنهــــم متميزون في غيبه وعلمه، وهــو ـ سبحانه ـ يريد أن يميزهم تميزاً مشهوداً، فيقع معلومه الذي هو غيب وشهادة»(1).



* هل حظ المؤمنين في الدنيا المحنة والابتلاء؟!

كثير ممن يعاصرون فترات الابتلاء والتمحيص، ومنها ما حصل من أمور بعد أحداث أمريكا، وما يحصل الآن في فلسطين وغيرها - يظنون أن حظ الفجار من كفار ومنافقين في الدنيا هو النصر والتمكين والغلبة، ليكون جزاؤهم في الآخرة العذاب المهين. وأصحاب هذا الظن الخاطئ تُشْكل عليهم آيات قرآنية تثبت أن الغلبة والنصر والتمكين للمؤمنين، نحو قول الله - تعالى -: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقـوله ـ - تعالى - ـ: {وَإنَّ جُــــندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُــــونَ} [الصــافات: 173]، وقـــوله - تعالى - : {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، فيجدوا أنفسهم مضطرين إلى حملها على ما يحصل من العزة والكرامة والتمكين للمؤمنين في الآخرة.



ولا شك في أن هذه الطريقة الخـــاطئة مصادمة لوعــد الله - سبحانه و تعالى - بالتمكين لعباده المؤمنين في الدنيا قبل الأخرى، كما في قوله ـ سبحانه ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وقوله ـ - تعالى - ـ: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51].



وهذه الطريقة مع مصادمتها لصريح القرآن؛ فإن فيها أيضاً سوء ظن بالله - سبحانه و تعالى -، ومخالفة لمقتضى حكمته في عباده، ورحمته بهم، وتلك هي طريقة المبتدعة الذين يظنون بالله ظن السوء، كما كان الجهم بن صفوان رأس الجهمية نفاة الأسماء والصفات؛ يخرج بأصحابه إلى الجذامى وأهل البلاء والأمراض والجنون ثم يقول لهم: «انظروا، أرحم الراحمين يفعل مثل هذا»(2)، يريد إنكار رحمة الله - تعالى - كما أنكر حكمته.



وهذه الظنون الفاسدة التي قد تقع في قلوب ضعاف الإيمان من المؤمنين، وينطق بها المنافقون مبنية على مقدمتين مهمتين:



المقدمة الأولى: حسن ظن العباد بأنفسهم، واغترارهم بأعمالهم، واعتقادهم أنهم قائمون بأمر الله - تعالى -، وهم فيهم من الفساد والعصيان والمنكرات ما لا يقدر قدره إلا الله - تعالى - من كثرته، فلا ينظرون إلى عصيانهم وإساءتهم، ولا يبحثون في الأسباب الحقيقية لتخلف نصر الله - تعالى - عنهم.



المقدمة الثانية: اعتقادهم أن الله - تعالى - قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره مظلوماً مقهوراً مستضاماً، مع قيامه بما أمر الله - تعالى - ظاهراً وباطناً، وانتهائه عما نهى عنه باطناً وظاهراً.



وهذان المعتقدان كانا سبباً في ضلال كثير من الناس، وفساد قلوبهم، فأقعدهم الأول عن محاسبة أنفسهم، وتوبتهم من ذنوبهم، وأحدث عندهم الغرور بأعمالهم، فتخلف عنهم نصر الله - تعالى - في الدنيا، ويخشى عليهم من عذابه في الآخرة بسبب ذنوبهم وعصيانهم، وتقاعسهم عن القيام بأمر الله - سبحانه و تعالى -.



وأقعدهم الثاني عن نصرة إخوانهم المسلمين المستضعفين المستضامين في مشارق الأرض ومغاربها؛ لاعتقادهم أن حظ المؤمنين في الدنيا العذاب والبلاء، وأن حظ الكافرين فيها النصر والغلبة والنعيم، وهذا سوء ظن بأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، ومخالفة صريحة لمقتضى حكمته - تبارك وتعالى -(3).



قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى - : (نذكر هنا نكتة نافعة، وهو أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيراً من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا من المصائب، وما يصيب كثيراً من الكفار والفجّار في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور، وأن المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلاً، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمع ما جاء في القرآن من أن العزة لله ورسوله وللمؤمنين، وأن العاقبة للتقوى.. وهو ممن يصدق بالقرآن؛ حمل هذه الآيات على الدار الآخرة فقط، وقال: أما الدنيا فما نرى بأعيننا إلا أن الكفار والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين ولهم العزة والنصرة، والقرآن لا يرد بخلاف المحسوس، ويعتمد على هذا فيما إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين أو الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى، فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق..)، إلى أن قال: (والمقدمتان اللتان بنيت عليهما هذه البلية؛ بناهما على الجهل بأمر الله ونهيه وبوعده ووعيده، فإن صاحبهما إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق؛ فقد اعتقد أنه فاعل للمأمور تارك للمحظور، وهو على العكس من ذلك، وهذا يكون من جهله بالدين الحق، وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله في الدينا، قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار على المؤمنين ولأهل الفجور على أهل البر، فهذا من جهله بوعد الله - تعالى -.



أما الأول فما أكثر من يترك واجبات لا يعلم بها وبوجوبها، وما أكثر من يفعل محرمات لا يعلم بتحريمها، بل ما أكثر من يعبد الله بما حرم، ويترك ما أوجب، وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، وأن خصمه هو الظالم المبطل من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل.



وأما الثاني فما أكثر من يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء معذبين؛ بخلاف من فارقهم إلى طاعة أخرى وسبيل آخر.



ولهذا أمر الله - تعالى - رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم وهو طاعته وهو المقدمة الأولى، وأمرهم بانتظار وعده وهي المقدمة الثانية، وأمرنا بالاستغفار والصبر لأنهم لا بد أن يحصل لهم تقصير وذنوب فيزيله الاستغفار، ولا بد مع انتظار الوعد من الصبر، فبالاستغفار تتم الطاعة، وبالصبر يتم اليقين بالوعد.. كما قال - تعالى - : {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْـحَاكِمِينَ} [يونس: 109]).



ويؤكد شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - على أن حصول النصر وغير ذلك من أنواع النعيم لطائفة أو شخص لا ينافي ما يقع في خلال ذلك من قتل بعضهم وجرحه ومن أنواع الأذى، وذلك أن الخلق كلهم يموتون، فليس في قتل الشهداء مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم، فمن عد القتل في سبيل الله مصيبة مختصة بالجهاد كان من أجهل الناس، بل الفتن التي تكون بين الكفار، وتكون بين المختلفين من أهل القبلة ليس مما يختص بالقتال، فإن الموت يعرض لبني آدم بأسباب عامة، وهي المصائب التي تعرض لبني آدم من مرض بطاعون وغيره، ومن جوع وغيره، وبأسباب خاصة، فالذين يعتادون القتال لا يصيبهم أكثر مما يصيب من لا يقاتل، بل الأمر بالعكس كما قد جربه الناس، ثم موت الشهيد من أيسر الميتات(1).



ـــــــــــــــــــــــــ

(1) الشكر، لابن أبي الدنيا، ص 132.

(2) الفرج بعد الشدة، لابن أبي الدنيا، ص 22.

(3) تسلية أهل المصائب، ص 226.

(1) زاد المعاد، (3/220).

(2) انظر: النبوات، لشيخ الإسلام، ص 247، ومنهاج السنة النبوية، (3/32)، ومجموع الفتاوى، (17/102)، وشفاء العليل، ص 202، وإغاثة اللهفان، (2/177).

(3) لشيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - كلام متين في هذا الموضوع في رسالته قاعدة في المحبة، (140 ـ 190)، وعنه نقل ابن القيم في إغاثة اللهفان، (2/173 ـ 187)، وهو مما يحتاج المسلم إلى قراءته وتأمله في مثل هذه الأحوال المعاصرة، والأحداث المزلزلة التي زلزلت إيمان كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز.



(1) قاعدة في المحبة، لابن تيمية، ص 149، وعنه ابن القيم في إغاثة اللهفان، (2/177) وما بعدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة